ا
مشهد من معركة يونيو 1882 |
أحداث جسام ألقت بظلالها على تاريخ مصر المعاصر، فقد استيقظ أهالي الإسكندرية في صباح 1 يوليو 1798 على وصول الأسطول الفرنسي إلى شواطئها، ليزاح الستار عن الحملة الفرنسية على مصر، فيما لم يكن في الإسكندرية من الجنود ما يكفي لصد الجيش الفرنسي الكبير المزوّد بالمعدات الحديثة، لكن لم يمنع هذا الأمر حاكم المدينة آنذاك السيد محمد كريم من الدفاع عنها بكل ما لديه من ذخيرة وعتاد فقاد المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين حتى بعد أن اقتحموا أسوار المدينة وظلوا فيها حتى هزيمتهم فى معركة أبي قير البحرية لتقف الإسكندرية في شموخ شاهدة على نهاية الفرنسيين.
لم تمضِ سنوات قليلة حتى أفاق أهالي الإسكندرية على هجوم جديد حين أرسلت إنكلترا حملة بحرية بقيادة «فريزر»، استولت على المدينة من دون قتال بسبب خيانة حاكمها التركي «أمين أغا» الذي سلّم المدينة للإنكليز في 28 مارس (آذار) 1807. وفي 19 سبتمبر (أيلول) 1807 تصدى أهالي منطقة رشيد بقيادة محافظها علي بك السلانكي للحملة الإنكليزية التي كان قوامها ألف جندي مسلّحين بأحدث الأسلحة، بينما لم يتجاوز عدد قوات إقليم رشيد الـ 700 جندي بقيادة السلانكي الذي عزم على مقاومة عساكر الإنكليز على رغم ضعف أسلحته واستطاع بالحيلة والدهاء ومعاونة الأهالي أن يهزم هذه الحملة الغادرة.
رحلت الحملة وبقيت الإسكندرية صامدة في وجه الأحداث فأصبحت خلال القرن التاسع عشر مركز التجمّع الرئيس للأوروبيين في مصر الذين زاد عددهم زيادة ملحوظة في البلاد خلال عصر الخديوي إسماعيل. لذا كان من الطبيعي أن تضم المدينة حياً خاصاً بهم كان أشهر ما فيه ميدان القناصل، حيث أقاموا حوله فنادقهم ومن أبرزها «آبات» و{أوروبا»، أما مقاهيهم فكانت كثيرة ومن أهمها: «القهوة الفرنساوية» في ميدان محمد علي.
عاشت المدينة سنوات عدة يسود الهدوء شوارعها وأحيائها، لا يكدّر صفو الحياة فيها إلا بعض المنغّصات والمناوشات الطبيعية بين الأهالي أو بين هؤلاء والأوروبين إلى أن جاء 11 يونيو 1882، يوم مذبحة الإسكندرية، يوم من الصعب نسيانه أو محوه من تاريخ المدينة، يوم اندلعت فيه شرارة العداء بين المصريين والأجانب المقيمين في مصر فكان بداية النهاية للمسرحية التي أعد الإنكليز فصولها ببراعة لاحتلال مصر، فالمدينة الساحلية الجميلة التي تحوّلت في لحظات إلى مسرح لمجزرة كبيرة وخراب لا يتصوّره عقل قد عاشت معاناة كبيرة لفترة امتدت لأكثر من 35 يومًا بداية من 11 يونيو 1882 مرورًا بـ 11 يوليو، وهو تاريخ ضرب المدينة بالمدافع بواسطة الأسطول الإنكليزي وما تلا ذلك من أيام بما فيها من أحداث تهجير المواطنين وحرق المدينة ثم احتلالها بواسطة القوات الإنكليزية.
بدأت الشرارة من مشاجرة نشبت بين مالطي ومصري على أجرة ركوب حمار فما كان من المالطي الذي كان من رعايا الحكومة الإنكليزية إلا أن طعن المصري وفرّ هاربًا داخل أحد البيوت التي يسكنها المالطيون واليونانيون، بعدها بدأ تبادل إطلاق النيران حتى سقط في هذه الحادثة عشرات الضحايا من الجانبين.
يدلّ الواقع والتاريخ على أن هذه الحادثة المشؤومة لم تكن وليدة اللحظة بل نتيجة لحالة من الغليان عاشتها الإسكندرية باعتبارها جزءًا من مصر... فمصر المحروسة كانت تشهد آنذاك حالة من السخط العام تحوّلت بمرور الوقت إلى ثورة كامنة داخل قلوب وعقول الكثيرين من رجال الجيش الذين عُرفوا في ما بعد برجال عرابي أو رؤساء الثورة العرابية، بالإضافة إلى نواب الأمة الذين سخطوا على أحوال البلاد في ظل حكم الخديوي توفيق والمراقبة الثنائية الإنكليزية والفرنسية على مالية البلاد، وهو الإجراء الذي فرضته الدول الأوروبية على مصر لضمان سداد الديون وحماية الدائنين ومن ثم اتخذته ذريعة للتدخل في أحوال البلاد والرعية، ما آثار سخط العلماء والأعيان والجيش، بالإضافة إلى الخطباء والزعماء الروحيين، أمثال الشيخ محمد عبده وعبد الله النديم، الذين ملأوا فضاء البلاد بالخطب الرنانة عن تردّي أحوال البلاد والعباد ووجوب القيام من العثرة، ما زاد الطين بلة. استمرت هذه التعبئة المسبقة لكل من المصريين والأجانب لفترة طويلة وبدأت بوقوع مصر تحت طائلة الديون التي تراكمت إبان عهد الخديوي إسماعيل الذي بسببها خلعته السلطنة العثمانية عن عرش مصر بإيعاز من الحكومتين الإنكليزية والفرنسية. بعدها ولّت الحكومتان ابنه الخديوي توفيق لتتمكّنا من التدخل في شؤون مصر المالية بواسطة المراقبين الثنائيين الإنكليزي والفرنسي بحجة رد الأموال للدائنين والبنوك الأجنبية، وهذا ما تم لهما بالفعل... فبدأ التدخل بشكل بسيط حتى تحوّل إلى تسلّط كامل على شخصية الخديوي توفيق الذي كان يبلغ من العمر 26 سنة وكان يقال عنه إنه كان ضعيف الشخصية منقاداً للأقوى.
شهدت الإسكندرية أحداث المذبحة تبعتها أحداث الثورة العرابية وضرب المدينة من الأسطول الإنكليزي لتشهد مصر بداية لمرحلة خطيرة في تاريخ البلاد استمرت لسنوات وسنوات لتكون المدينة كعادتها مسرحًا لأحداث فاصلة في تاريخ مصر الحديث.
يبقى الـ 1882 عاماً مليئاً بالحكايات الحزينة التي عاش أبطالها في قمع وحصار وتخريب من المحتل، الذي عاث بالبلاد دمارًا وخرابًا ليصبح عام عاماً مليئاً بالذكريات المريرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق