(شبح الخميني)... كتاب بريطاني جديد لإدارة أميركية قديمة
تراث مؤسس الثورة مليء بتناقضات تعقد قراءة الفكر الجهادي
أزاده موافيني
تراث مؤسس الثورة مليء بتناقضات تعقد قراءة الفكر الجهادي
أزاده موافيني
خلال شهر فبراير (شباط) الماضي كنا على موعد مع الذكرى السنوية الثلاثين لوصول الخميني إلى طهران على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، وارتدائه عباءة الثورة الإسلامية التي أطلقها. قبل النزول من الطائرة سُئل الخميني من قبل أحد الصحافيين عن شعوره لدى عودته إلى إيران بعد أن أمضى 15 عاماً في المنفى، «لا شيء» كان جواب الخميني الشهير والمقتضب والجاف. ملايين الإيرانيين، ناهيك عن عشرات السياسيين والباحثين الذي كرسوا أنفسهم لمحاولة فهم الثورة الإيرانية، أمضوا العقود الثلاثة التالية في محاولة سبر أغوار معنى تلك العبارة الشهيرة. فهل كان قلب الخميني الحذر والمنشغل بهموم الإسلام خالياً من أي عاطفة تجاه إيران؟ أم أنه كان يريد تأكيد بعده الوجودي عن الغرب؟
مثل هذه الأسئلة تشكل الهاجس الأكبر لجميع الروايات التي كُتبت عن الخميني، لأنه حتى في يومنا هذا لا يزال الحديث عن هذا الرجل يُعتبر من المواضيع المُربكة والمعقدة؛ فقد كان متزمتاً، لكنه كان يحب الشعر، كما كان أصولياً، لكنه كان قادراً على التحلي بالمرونة، وبالرغم من أنه كان متعصباً لأصوله الفارسية والشيعية، إلا أنه كان يطمح لأن يكون ملهماً للعالم العربي ذي الأغلبية السنّية. وفي إيران نجد أن السياسيين يلجؤون لاقتباس كلماته بانتظام كي يفنِّدوا بها آراء خصومهم، لكن الخميني خلَّف وراءه إرثاً غنياً بالآراء المتناقضة، بحيث يستطيع طرفا أي نقاش توظيف أقواله لإضفاء بعد إستراتيجي على الطرح الذي يدافع عنه كلٌّ منهما.
هاجس التفاصيل
التفاصيل الدقيقة في شخصية الخميني لا تشكل هاجساً كبيراً بالنسبة للمحرر في صحيفة «ديلي تلغراف» كون كوغلين، في كتابه الجديد «شبح الخميني». فهو يصوِّر الخميني على أنه شخص متشدد ومنحرف على الطريقة الطالبانية، ومصمِّم على الحصول على الأسلحة النووية من أجل مشروعه الإسلامي الكارثي، حيث يقول «البحث عن القنبلة النووية شكَّل جزءاً جوهرياً من إرث الخميني».
في القسم الثاني من الكتاب يشرع كوغلين في سرد الأعمال القذرة، التي انخرطت فيها إيران في عهد الثورة، بدءاً من العام 1979 وصولاً إلى الوقت الحالي، حيث رسم خطاً دقيقاً ربط من خلاله بين ثورة الخميني والعديد من التحديات التي يواجهها العالم اليوم. وهنا يجب الاعتراف بأن الكاتب لا يجافي الحقيقة عندما يقول إن محاولات الخميني الأولى لتصدير الثورة إلى الخارج أدت إلى استعداء البلدان السنّية في العالم العربي، ولاسيما في المملكة العربية السعودية، ما أدى إلى إطلاق سباق فعلي نحو لقب «الأكثر أصولية»، الذي أعاد خلط الأوراق في الشرق الأوسط على مدى السنوات العديدة القادمة.
أسود وأبيض
لكن كوغلين يشطح ويبالغ كثيراً في تقويمه لمدى نجاح المشروع الخارجي للخميني. فهو يقع في فخ التعميم والتسطيح عندما يصف كيف أن رؤية الخميني للدولة الإسلامية «أصبحت بمثابة إعلان رسمي للأنظمة الأصولية الإسلامية في العالم». وهذا ينطوي على مجافاة كبيرة للحقيقة، لأن مفهوم الخميني لولاية الفقيه محصور في تأويل الشيعة لأصول الشريعة، ولا يمت بأي صلة للسنّة، الذين يشكلون الأغلبية الساحقة في العالم الإسلامي. ويرى كوغلين أن إرث الثورة لا يزال يتمتع بنفس القوة التي كان عليها، عندما وصل الخميني إلى السلطة العام 1979. مثل هذه التعميمات من شأنها أن تدغدغ مشاعر بيروقراطيي طهران، لكن الواقع يقول إن قدرة طهران على بسط تأثيرها الأيديولوجي على دول المنطقة لم تكن يوماً مساوية لطموحاتها.
ينظر كوغلين إلى إيران بالأسود والأبيض، حيث يقول إن الخميني «حقق حلم حياته عندما أسَّس دولة إسلامية قائمة على التفسير الدقيق لقوانين الشريعة». وبذلك هو يتجاهل حقيقة أن الدستور يقر بوجود مجلس تشريعي منتخب، وبأن الدولة يجب أن تُدار «على أساس الرأي العام»، وذلك بالرغم من كل محاولات الخميني وضع السلطة المطلقة في يد الولي الفقيه. ومع أن الانتخابات لم تكن يوماً حرة، إلا أنها لا تزال تشهد منافسات شرسة، وهناك عدد هائل من المؤسسات التي تمارس الحكم بالإجماع، وهو حكم حقيقي بالرغم من افتقاره للشفافية.
علاقة غامضة مع القاعدة
هذه السيادة المزدوجة وغير العملية التي يمارسها «المعيَّنون من قبل الله» والمنتخَبون من قبل الشعب هي في صلب المشاكل التي تعاني منها إيران، كما أنها سبب الصراع الحزبي الذي يعمل على إضعافها. لكن يبدو أن كوغلين غير مطلع على الدور الذي تلعبه الأحزاب الإيرانية المتنازعة في السياسة الخارجية، كما أنه في أغلب الأحيان لا يحكي إلا نصف الحقيقة. على سبيل المثال يصوِّر إيران بأنها متعاونة مع القاعدة، حيث يقول إن طهران هي التي ساعدت رجال القاعدة على الهروب من أفغانستان، بمن فيهم سعد نجل أسامة بن لادن، كما وفرت لهم ملجأً آمناً. وبناءً على ذلك يقول إن «وجود قادة كبار من تنظيم القاعدة في إيران سيكون من بين القضايا التي ستقوِّض محاولات خاتمي لتحسين العلاقة مع الغرب».
هذا عرضٌ مضلِّل للحقائق. صحيحٌ أن المتشددين الإيرانيين مارسوا لعبة القطة والفأر مع حكومة محمد خاتمي المعتدلة، حيث قاموا بإخفاء عناصر القاعدة الذين فروا إلى إيران. لكن حكومة خاتمي أرسلت عملاء لتعقب نحو 200 هارب على الأقل، حيث اعتقلتهم ووضعتهم على متن طائرات وأعادتهم إلى بلدانهم الأصلية.
وفي ذلك الوقت أعلن المسؤولون الإيرانيون أنهم لا يستطيعون إعادة كافة الهاربين إلى بلدانهم. ففي قضية سعد بن لادن، على سبيل المثال، واجهت إيران مأزقاً، حيث رفضت السعودية تسلّمه، ولم يكن هناك ثمة إطار عملي يمكِّنها من تسليمه إلى طرف ثالث. وقد طلبت طهران من واشنطن المساعدة في هذه القضايا المحيرة، إلا أن إدارة بوش صدَّتها.
ذعر القارئ
في الحقيقة ما يقوم به كوغلين هو أنه يتلاعب بوقائع التاريخ عبر دس ادعاءات لا تستند إلى أي دليل بهدف ربط إيران بمعظم الهجمات الإرهابية التي طالت المصالح الأميركية خلال العقدين الماضيين. فيقول إن إيران هي التي قامت بتدريب خلايا القاعدة التي فجرت السفارتين الأميركيتين في كينيا وتانزانيا العام 1998، كما يقول إن شكوكاً مماثلة قد طفت على السطح عندما أقدمت القاعدة على تفجير المدمرة الأميركية «كول» العام 2000. ومن الأمور الأخرى التي يتهم بها إيران هي أنها قادت حملة لضرب الاستقرار في الأردن، وأنها، حتى بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، قامت بتدريب عناصر إرهابية من القاعدة داخل معسكرات في طهران. بالطبع عند هذه النقطة لابد أن يُصاب القارئ بشيء من الذعر ويبدأ بالتساؤل عن سبب قيام الولايات المتحدة بغزو العراق العام 2003 بدلاً من إيران.
لكن على القارئ أن يعي بأن كوغلين، خلال طرحه لرؤيته، يرتكب عدداً من الأخطاء. على سبيل المثال يقول إن إيران تستخدم التقويم الإسلامي، بينما الحقيقة هي أنها تستخدم تقويما فارسيا (لكنه يبدأ من عام الهجرة النبوية)، ويقول أيضاً إن المحامية والناشطة في حقوق الإنسان شيرين عبادي فازت بجائزة نوبل للآداب، في حين إنها فازت بجائزة نوبل للسلام، كما يزعم أن النساء في إيران يُجبرن على ارتداء التشادور الأسود (صحيحٌ أنهن ملزمات بتغطية الشعر وارتداء الجلابيب، إلا أن الأعراف الرسمية تسمح ببعض الحرية على صعيد خياطة الملابس).
رسالة «نووية»
وأحياناً يستخدم كوغلين بعض الوثائق، التي تُعتبر ضمن متناول عامة الناس، خارج سياقها العام. على سبيل المثال يقول إن الخميني «أعلن دعمه المطلق للقنبلة النووية الإيرانية»، خلال تأويله بعض الاقتباسات من رسالة كان الخميني قد كتبها في السابق، وخرجت إلى العلن في العام 2006. لكن تلك الرسالة لا تشير إلا بشكلٍ غير مباشر إلى حاجة إيران للحصول على الأسلحة النووية. والحقيقة هي أن الخميني في الرسالة المذكورة كان يرد على رسالة موجهة له من أحد القادة العسكريين حول ما تحتاج إليه القوات الإيرانية المستَنزفة كي تكسب الحرب ضد العراق. فهي لا تطالب إيران بشكلٍ واضح بتطوير أسلحة نووية، كما أنها بالكاد تصلح لأن تكون ذلك الدليل الذي يلوح به كوغلين في الفصول الأخيرة من كتابه. بوجود مثل هذا السجل الحافل من الانتهاكات الفعلية التي تقوم بها إيران حالياً فيما يتعلق ببرنامجها النووي، فإن هذا القفز نحو النتائج يُعتبر غير ضروري على الإطلاق.
لا يناسب أوباما
في هذا الوقت الذي أخذت فيه واشنطن تتخلى عن سياستها الفاشلة المتمثلة بالاستخفاف بإيران وتجاهلها لها، يصبح من المحبط أن يعجز كتاب كوغلين عن توفير التحليل الدقيق الذي يحتاج إليه صناع
القرار السياسي. فإيران ليست أقوى دولة في منطقة الخليج وحسب، بل هي أيضاً الدولة الوحيدة في المنطقة التي سئم فيها الناس من الإسلام السياسي
وأصبحوا يميلون للنظر إلى الولايات المتحدة بإيجابية. مثل هذه الميزات النادرة تجعل من إيران دولة تتمتع بإمكانيات فريدة من نوعها بالنسبة لإدارة أوباما، التي تنصرف حالياً نحو إصلاح صورة أميركا في الشرق الأوسط.
كوغلين لا يقدم أية أفكار حول الأسلوب الذي يجب أن يتبعه الغرب تجاه إيران. ثم يتوصل إلى استنتاج أعرج مفاده أنه طالما بقي ورثة الخميني في السلطة، فإن إيران سوف تبقى متمردة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار مواقف واشنطن الحالية تجاه إيران، سيبدو لنا بأن كتاب كوغلين قد جاء متأخراً عن موعده إدارةً واحدة.
ترجمة: مالك عسّاف عن «نيويورك تايمز» كاتبة المقال هي مؤلفة كتاب «شهر عسل في طهران: سنتان من الحب والخطر في إيران»
منقول من جريدة (اوان) الكويتيه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق