أونبهايم.. مستشرق عند العرب وجاسوس لدى الألمان
مسيحي كاثوليكي له جذور يهودية كان يجيد العربية وينتقل من مسجد لآخر
القيصر الألماني كلفه بتأليب العرب على البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى
في الحرب العالمية الثانية حاول إقناع "النازي" الاستعانة بسلاح "الجهاد الاسلامي" ضد انجلترا
تجول في المنطقة العربية وعاش فيها وألف موسوعة عن "البدو" وكان يرتدي زيهم
الصحافة الألمانية: أوبنهايم لو كان حياً اليوم لتفوق على بن لادن
نجم فون أوبنهايم بدأ يأفل بينما شهرة لورانس العرب أخذت في الاتساع
برلين - الراية - سمير عواد:من يحاول جمع معلومات في عصر التقنية الحديثة أمامه وسيلة سهلة بمتناول اليد وهي الإنترنت أو الشبكة العنكبوتية. وهذا ينطبق بالطبع على دبلوماسي ألماني يدعى ماكس فون أوبنهايم أمضى سنوات في العالم العربي. على موقع (قنطرة) الذي تموله وزارة الخارجية الألمانية، يجد المرء معلومات عنه حيث صفته(مستشرق) وللدليل على ذلك، يطلعنا الموقع المذكور على قراءة لكتاب له يحمل اسم (البدو) تمت ترجمته إلى العربية عن دار الوراق في خمسة مجلدات يؤكد الموقع أنها نتاج بحوث ودراسات معمقة استغرقت أربعين عاما قضاها المؤلف في الشرق الأوسط. كما يطلعنا موقع (قنطرة) الذي استحدثته وزارة الخارجية الألمانية بعد هجمات 11-9 للتركيز على قضايا العالم العربي أن ماكس فون أوبنهايم أحب بنهم حياة الصحراء مثلما أحب البدو لشجاعتهم وكرمهم وضيافتهم خاصة للغريب. لكن الموقع يكشف دون قصد، أن فون أوبنهايم حصل قبل رحلته إلى شبه الجزيرة العربية طلب منه مدير مصرف (دويتشة بنك) الألماني وكان اسمه جورج فون سيمنز أن يترأس بعثة استطلاعية يمولها المصرف لوضع خطة لمشروع خط قطار بغداد - برلين. واستطاع فون أوبنهايم أن يحقق رغبة المصرفي الألماني في وضع دراسة حول طرق المد خط قطار بغداد - الموصل - حلب.
يقول الموقع أيضا إن هذا المستشرق الألماني وضع جدولا دقيقا تضمن أسماء العشائر وفروعها بحسب ديارهم ومناطق ترحالهم في الصيف والشتاء حتى عدد خيامهم، كما كتب تاريخ كل عشيرة وتاريخ مشايخها بحسب المناطق الجغرافية التي يتجولون فيها، وقسمها إلى عشائر سورية وفلسطين وبين النهرين والعراق والجزيرة العربية وكل ما يرتبط بهذه العشائر من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية مما مكنه من إقامة علاقات قوية مع عدد كبير من الأفراد والشيوخ والعلماء والأدباء والسياسيين والمستشرقين الذين عملوا معه.
المهمة الحقيقية التي انتدب فون أوبنهايم من أجلها إلى المنطقة العربية كانت ترمي إلى التجسس على العرب وتحريضهم على المستعمرين البريطانيين وذلك بتكليف من القيصر الألماني وذلك خلال الحرب العالمية الأولى. في نفس الوقت، حمل فون أوبنهايم في حقيبته تفويضات من قبل شركات ومؤسسات أخرى للقيام بمهمات لصالحها في المنطقة العربية.
وقد ظهرت في ألمانيا معلومات جديدة عن فون أوبنهايم تشير إلى أنه لم يكن دبلوماسيا عاديا، وكان يرتدي زي البدو لكنه توجه إلى منطقة الشرق الأوسط بتفويض خاص من القيصر الألماني لتأليب العرب على المستعمرين البريطانيين.
امتاز فون أوبنهايم بإجادته اللغة العربية، وكان يتنقل من مسجد لآخر، وفي عام 1915 لفت الأنظار حيث راح هذا الألماني، بكثير من الدهاء، للدعوة إلى محاربة المستعمرين البريطانيين في المنطقة وفي آسيا وإفريقيا وركز على محاربة البريطانيين الذين وصفهم بالكفرة. وراح يروج لدعوته خلال تنقلاته في سورية وفلسطين وشبه جزيرة سيناء وشبه الجزيرة العربية حيث لم يترك بلدا إلا وطرق بابه داعيا للانتفاض على المستعمرين الأجانب. قام فون أوبنهايم بدور الأصولي لهدف دفع العرب ليحذو حذوه ويثوروا على المستعمرين كما كان يسميهم. لكنه على العكس تماما من الشخصية التي تقمصها بإتقان، فقد كان فون أوبنهايم مسيحيا كاثوليكيا له جذور يهودية وكان يقوم بهذا الدور تنفيذا لمهمة كلفه بها القيصر الألماني وتقضي كما كشفت الصحافة الألمانية قبل أيام، دفع المسلمين من مصر حتى الهند للثورة على المستعمرين البريطانيين. يبدو أن ضمن حسابات القيصر الألماني إشعال النيران في مناطق العرب والمسلمين التي يستعمرها البريطانيون لهدف إضعاف الإمبراطورية البريطانية وإشغالها عن الحرب ضد ألمانيا وإرسال أكبر عدد من جنودها إلى العالم العربي والإسلامي لإخماد الثورات التي تهدد مصالحها. بهذا يكون ماكس فون أوبنهايم أول أصولي في العالم العربي والإسلامي دعا إلى محاربة المستعمرين من خصوم ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
حتى وقت قريب كان ماكس فون أوبنهايم معروفا أنه ابن مصرفي ألماني، وأنه أصبح في حياته دبلوسيا وعالم آثار اكتشف(تل حلف) في سورية المنطقة الواقعة على حدود هذا البلد العربي مع تركيا علاوة على أن الكثيرين من الخبراء يصفونه بالمستشرق وضع دراسات هامة كثيرا عن المشرق. لكن أحدا لم يكن يعرف سره الدفين وأنه في الحرب العالمية الأولى جاء إلى الشرق العربي ليفجر نيران حرب بين العرب والمسلمين من جهة والبريطانيين من جهة أخرى، بدعوته إلى حرب الجهاد. بعد أن أدخل القيصر الألماني في حساباته إمكانية إضعاف الإمبراطورية البريطانية، أوعز إلى فون أوبنهايم القيام بمهمة جهنمية وتحريض العرب والمسلمين على الجهاد. وحاول فون أوبنهايم عند بلوغه سن الثمانين إقناع خبراء الشرق الأوسط الذين كانوا يعملون في إدارة الزعيم النازي أدولف هتلر، أن يستعينوا بسلاح(الجهاد الإسلامي) ضد إنجلترا.
قليل من الأوروبيين كانوا يعرفون الكثير من عادات وتقاليد وطباع العرب بالقدر الذي كان يعرفه ماكس فون أوبنهايم.
في الفترة من عام 1896 حتى عام 1910 عمل في القاهرة كمبعوث من القيصر الألماني ليكون مراقبا للعالم الإسلامي كله. وفي العاصمة المصرية لم يعش حياة بذخ مثل مبعوث دول استعمارية بل عاش حياة عادية تماما وبدأ يتعلم من العرب. بدلا من الإقامة في الحي الدبلوماسي في مدينة القاهرة، عاش في حي قديم وسط السكان المدنيين، حيث تعلم اللغة العربية، ومع الوقت ارتبط بصداقة مع زعماء عشائر وعلماء وحاول قدر المستطاع الابتعاد عن الأوروبيين.
ساعدته اتصالاته الوثيقة مع زعامات محلية في أن يضع تصوره الخاص حول سلاح يمكن استخدامه ضد البريطانيين وهو حرب الجهاد. وكتب تفاصيل هذا التصور في تقرير إلى القيصر الألماني الذي أعجبته الفكرة كثيرا وكلفه لاحقا بمهمة تنفيذها لهدف إضعاف الإمبراطورية البريطانية.
كانت هذه أول مرة في تاريخ العالم العربي يجري فيها التفكير بحرب جهاد ضد البريطانيين وإشعال نار ما يسمى الإسلام السياسي. وذكرت الصحافة الألمانية أن فون أوبنهايم لو كان يعيش اليوم لتجاوز تطرفه في تلك الفترة تطرف أسامة بن لادن زعيم تنظيم(القاعدة). فقد أتى بشيء غريب على المنطقة، وهو التطرف السياسي. حتى جاء عام 1910 حيث كاد أسلوبه أن يودي به. فقد تنبه له البريطانيون الذين كانوا يسيطرون على مصر منذ عام 1882 وراحوا يراقبون تحركاته مدة من الزمن وتوصلوا إلى تحليل أنه جاسوس للقيصر الألماني وطلبوا منه مغادرة البلاد. وهنا ضغطت برلين عليه حتى رضي مغادرة القاهرة وفعل ذلك رسميا لكنه بقي في الشرق الأوسط وانتقل للعيش في تل حلف بسورية حيث انهمك في التنقيب عن الآثار. أرادت برلين من خطوة استدعائه من القاهرة أن تقنع الحكومة البريطانية أن العلاقة الوثيقة التي أقامها فون أوبنهايم مع العرب ليست سياسة برلين. لكن هذا كان موقف ألمانيا قبل تغير الأجواء السياسية في أوروبا.
بحلول عام 1914 عندما بدت كافة المؤشرات تدل على قرب نشوب حرب في أوروبا، لجأت برلين لاستخدام كافة السبل لإضعاف البريطانيين، كونها كانت تخاف دخول بريطانيا الحرب ضد ألمانيا، في مقدمتها استراتيجية الإسلام السياسي. في هذا الوقت رأت برلين ترتبط بعلاقات جيدة مع الإمبراطورية العثمانية وعرضت على الأتراك التدخل لجانبهم إذا هاجمت روسيا أراضي العثمانيين، في المقابل طلبت برلين من القادة العثمانيين أن يدعو السلطان محمد الخامس من عاصمة الإمبراطورية العثمانية في استانبول جميع المسلمين لحرب الجهاد ضد بريطانيا. في هذه المرحلة شعرت برلين بحاجة ماسة لخدمات ماكس فون أوبنهايم وبين ليلة وضحاها منحته برلين صفة الاستراتيجي الأعلى لمنطقة المشرق ويحصل على الأوامر من القيصر. بعد اندلاع الحرب بوقت قصير وضع فون أوبنهايم ورقة استراتيجية تحت عنوان: إشعال ثورات في المناطق الإسلامية التي يسيطر عليها أعداؤنا البريطانيون، بمعنى آخر: إشعال حرب الجهاد ضدهم. تضمنت الخطة الدعوة لانقلابات واغتيالات واضطرابات وأعمال شغب تواكبها حملات إعلامية والترويج لشائعات مغرضة وذلك في المناطق من قناة السويس إلى حقول النفط في باكو بأذربيدجان.
قبل ذلك وفي صيف 1914 جاء أول المبعوثين الألمان في مهمات إلى فلسطين، إيران وأفغانستان، لهدف تشكيل تحالفات مناهضة للبريطانيين تعمل في إثارة الاضطرابات ضدهم. في نوفمبر 1914 بدأت وكالة الاستخبارات للمشرق التي أنشأها فون أوبنهايم مهامها، وكانت وضع خطط الاغتيال والتفجير وإعداد المنشورات المحرضة على البريطانيين والتي لم تكن مزودة بالنصوص لانتشار الأمية بين الشعوب وإنما تحتوي على صور حتى تصل إلى أكبر عدد من السكان المحليين خاصة الأميين.
في بداية الأمر سارت الخطة على أفضل ما يرام. بتاريخ 14 نوفمبر 1914 دعا السلطان العثماني محمد الخامس إلى حرب الجهاد، وبتكليف من الألمان تم تنفيذ عدد من الاغتيالات والتفجيرات وبهذا وضع الألمان بداية مرحلة من العنف. لكن لم يتحقق هدف الألمان في إضرام النار بالإمبراطورية البريطانية لسبب وحيد وهو أن المسلمين لم يكن لديهم رغبة على الإطلاق بحرب جهاد إلى جانب الألمان الذين كانوا ينظرون إليهم ككفرة أيضا.
عندما أدرك فون أوبنهايم هذه الحقيقة وكادت أن تفشل استراتيجيته قرر التدخل شخصيا لدى زعماء العشائر وخاصة الشريف حسين خادم الحرمين الشريفين الذي كان يحظى بنفوذ واسع في شبه الجزيرة العربية. وكان في حسبان فون أوبنهايم أنه إذا نجح في إقناعه أن يدعو مثل الخليفة العثماني لحرب الجهاد ضد المستعمرين البريطانيين، سوف يتبعه زعماء آخرون في المنطقة. في مطلع عام 1915 سافر فون أوبنهايم إلى استانبول للاجتماع مع الأمير فيصل ابن الشريف حسين، وعرض خطته عليه. وحمل فون أوبنهايم معه هدايا: سيارة وبندقية ومال ومبلغ كبير من المال. لم يخرج فون أوبنهايم بنتيجة نهائية من الأمير. ما لم يعرفه في ذلك الوقت أن الأمير فيصل كان يتفاوض مع البريطانيين الذين وضعوا استراتيجية مشابهة للتي وضعها الألمان. كانوا يريدون إضعاف التحالف الألماني التركي ويخططون لإقناع العرب بالانتفاضة على الأتراك خاصة أن العرب عانوا كثيرا من الاستعمار العثماني وأكثر من معاناتهم من الاستعمار البريطاني.
كان توماس إدوارد لورنس الذي عًرف لاحقا باسم لورنس العرب، يتفاوض مع الأمير فيصل نيابة عن البريطانيين وكان اللاعب المناهض لفون أوبنهايم في المنافسة على ولاء العرب. منذ عام 1914 كان لورنس يعمل لصالح الاستخبارات البريطانية في القاهرة التي كانت المحطة الرئيسية لفون أوبنهايم في المنطقة. لم يعد البريطانيون الحين بمنح بلاده الاستقلال، وإنما وعدوه أيضا بلقب(ملك المنطقة العربية) في نفس الوقت أكدوا له تقديم مساعدات عسكرية في الحرب ضد القوات التركية، وكان هذا عرضا مغريا.
لكن فون أوبنهايم أبى أن يفقد الأمل فسافر في صيف 1915 إلى دمشق ومعه شحنة من المواد الإعلامية المحرضة على البريطانيين ومال وفير لغرض البحث عن حلفاء، لكنه فوجئ بأن البريطانيين يروجون هناك أيضا لخططهم وبلغه أن مكتب البريطانيين في القاهرة تمكن من الحصول على موافقة الأمير فيصل. في عام 1915 ضمن هنري مكماهون المفتش السامي البريطاني الأعلى في رسالة إلى الشريف حسين دعمه لمسعاه حصول بلاده على الاستقلال عن بريطانيا كما كانت بريطانيا تعتزم منحه مبلغ 11 مليون جنيه استرليني(يعادل اليوم 600 مليون يورو).
بدلا من الدعوة لحرب الجهاد دعا الحسين في عام 1916 إلى مقاومة الأتراك، ولأن القدرات العسكرية تحت إمرته كانت ضعيفة وضع البريطانيون خبراء عسكريون تحت تصرفه لتدريب وقيادة المقاومة. وكان لورنس العرب الذي نظم هذه المقاومة.
اعتمد لورنس العرب خطة حرب الفدائيين حيث كان البدو يباغتون القوات التركية والألمانية. بعد مدة قصيرة تم الاحتفال بلورنس العرب كمناضل شجاع ناصر العرب. وعلامة الشكر قدم له الأمير فيصل في عام 1916 بندقية كان نفسه قد حصل عليها هدية قبل نصف عام من فون أوبنهايم.
في الوقت الذي شهد ولادة شهرة لورنس العرب، بدأ نجم فون أوبنهايم بالأفول. بحلول يوليو عام 1940 لم يكن فون أوبنهايم فقد الأمل بإشعال حرب جهاد في العالم العربي، وكان قد مضى ثلاثة أرباع عام على اندلاع الحرب العالمية الثانية، كتب فون أوبنهايم إلى وزارة الخارجية الألمانية وكانت ألمانيا تخضع لحكم النازيين، يعرض خطته باستعمال العرب لإضعاف خصوم ألمانيا في هذه الحرب. وافق النازيون على خطته وواجه هتلر الفشل مثلما واجهه القيصر الألماني قبله. أوبنهايم الذي ينحدر من جذور يهودية، استطاع البقاء حيا بعد الحرب، ووافته المنية في عام 1946 بمدينة دريزدن بعد أن أصيب بالتهاب في الرئتين وكان يبلغ 86 سنة من العمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق