نزارباييف... بين التواضع وجنون العظمة
كازاخستان نمر الثلج فـي آسـيا الوسطى
إريخ فولاث وكريستيان نيف
تملك كازاخستان وفرة من النفط والفحم واليورانيوم وهي عاصمة تمتاز بهندستها المذهلة. ويأمل الرئيس نور سلطان نزارباييف أن يصبح اقتصادها رائداً في المنطقة، بيد أن شخصيّته الصارمة لا تلقى قبولاً عالمياً. كذلك، يخاف البعض من تأثير الصين المتنامي سلباً على هذا البلد.
بدأت رحلتنا في كازاخستان في إحدى ليالي الصيف الصافية المنعشة في أستانا، حين تعجز العتمة عن إحكام قبضتها على السهول المحيطة بهذه العاصمة.
أقيم مسرح في منتزه لوفرز خلف مبنى وزارة النفط والغاز الكازاخستانية، الذي يشبه قوس النصر. وراح كبار الفنانين الكازاخستانيين يؤدون مشاهد من تاريخ هذا البلد البدوي. كذلك، أنشد المغني الإيطالي أندريا بوتشيلي بعض أغانيه، وبدأ الضيوف الجالسون في القسم المخصّص للشخصيات المهمة بالتصفيق بحماسة. حضر هذه الحفلة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ونظيره التركي عبد الله غول وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان والعاهل الأردني الملك عبد الله. كذلك، انضم إليهم رؤساء أرمينيا وروسيا البيضاء وقرغيزستان وطاجيكستان وأوكرانيا.
جلس بين هؤلاء الرؤساء والحكّام رجل وجهه دائري خالٍ من أي تعابير، جبهته عريضة، شعره مفروق بدقة، ويرتدي بذلة رمادية. إنه الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف، وكان سيحتفل بعد بضع ساعات بعيد مولده السبعين.
حقق نزارباييف نجاحاً كبيراً في حياته المهنية. فهو الإبن البكر لراعٍ من الأرياف النائية. عمل في الفولاذ، قبل أن يصبح أمين عام الحزب الشيوعي في كازاخستان. قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، خطّط ميخائيل غورباتشوف لتعيين نزارباييف نائبه. وطوال العشرين سنة الماضية، شغل هذا السياسي منصب الرئيس في كازاخستان.
عاصمة مجيدة
في 5 يوليو (تموز) عام 2010، أقيمت في أستانا حفلة افتتاح {خان شاطر}، أكبر خيمة في العالم صمّمها المهندس البريطاني نورمان فوستر، وهي تتخطى المقاييس الهندسية كافة. صحيح أنها تبدو هشة بطبقتها الخارجية المكوّنة من البلاستيك، إلا أن برجها المخروطي (102م) القائم فوق قاعدة إهليلجية يغطي مساحة توازي 14 ملعب كرة قدم تقريباً. وتضم هذه الخيمة المتعددة الطوابق أهم مركز ترفيه في البلد. فهي تحتوي على شجر نخيل مستورد من البحر الكاريبي، أحواض سباحة حُمل رملها من ماليزيا، حدائق، منتزهات مائية، دور سينما، مركز صحي، ومركز تسلية للأولاد فيه مجموعة من لعب الأحصنة الدوارة، فضلاً عن المقاهي والمتاجر.
لا شك في أن هذه هديّة عيد ميلاد مذهلة، نظراً إلى التحذيرات التي وجّهها نزارباييف إلى رعاياه. فقد قال لحكّام الأقاليم في بلده في شهر مارس (آذار) الفائت: {لا أريد احتفالات بمناسبة عيد مولدي. هذا أمر. وإذا نظّمتم أي احتفال، خسرتم مناصبكم}. لكن الحكّام الأذكياء في بلاط نور سلطان نزارباييف الكازاخستاني حدّدوا قبل زمن العطلة السنوية للاحتفال بالعاصمة الجديدة، أستانا، يوم عيد مولده في 6 يوليو. هكذا، تمكّنوا من تقديم هدية ملائمة لحاكمهم عشية عيد ميلاده: خان شاطر.
لا شك في أن نزارباييف أراد أن يكون يوم 6 يوليو مميزاً على هذا النحو. فقد تحوّلت أنظار العالم كافة إلى دولة كازاخستان الجديدة والمزدهرة وإلى الرجل الذي يقف وراء هذه الإنجازات كافة. ذكر نزارباييف في أمسية الاحتفال: {تحوّلت أستانا إلى المشروع الأهم والأكبر في المنطقة التي كانت تابعة سابقاً للاتحاد السوفياتي}. ثم ذكّر الحضور بأنه هو مَن أمر في عام 1997 بنقل عاصمة كازاخستان من مدينة ألماتي في الجنوب إلى سهول أستانا التي تلعب فيها الرياح. وأوضح: {جوبه قراري هذا في البداية بالرفض وعدم التفهّم، لكن الجميع مسرورون اليوم. تواجَه الأفكار التقدمية غالباً بالرفض والصدّ}.
بلغ نزارباييف اليوم المرحلة الأخيرة من خطّته. فمع تشييده خان شاطر، يأمل في أن يُسكت آخر منتقدي هذه الخطوة. تُعتبر أستانا ثاني أبرد عاصمة في العالم بعد العاصمة المونغولية أولان باتور. لكن حتى لو انخفضت الحرارة اليوم إلى 40 درجة مئوية تحت الصفر، يستطيع 20 ألف شخص الاستمتاع تحت أشجار النخيل في خيمة فوستر. فإذا أمكن بناء حلقة ضخمة للتزلج على الجليد في صحاري دبي، فلمَ لا تحظى كازاخستان الباردة بمركز مناخ معتدل، مثل خان شاطر؟
انتقادات وطموحات
أنفق الرئيس الكازاخستاني هذا عشرة مليارات دولار على بناء المشاريع في سهول أستانا، محوّلاً هذه المنطقة الريفية النائية إلى جوهرة يفتخر بها. تضم هذه العاصمة القصر الرئاسي الناصع البياض، ناطحات سحاب زجاجية تأوي وزارات، مسجد نور- أستانا الذي يتسع لخمسة آلاف مصلٍّ، مقراً دبلوماسياً جديداً، وعدداً لا يُحصى من مراكز التسوّق وأبنية الشقق الفخمة، حيث يصل ثمن المتر المربع الواحد إلى 4 آلاف دولار.
شكّلت هذه المدينة الجديدة المذهلة ردّ نزارباييف الأنسب على منتقدي كازاخستان، مثل الفكاهي البريطاني ساشا بارون كوهين. ففي فيلم Borat (بورات) عام 2006، هزأ كوهين من كازاخستان، مصوراً إياها كدولة متخلّفة تكثر فيها الدعارة وتجارة الأسلحة غير المشروعة والتمييز ضد الأقليات. يذكر بطل الفيلم، المراسل التلفزيوني الكازاخستاني بورات ساغدييف، أن النساء الكازاخستانيات يحتجزن في أقفاص وأن المشروب الوطني الكازاخستاني بول أحصنة مخمّر. ثم يصوّر قريته بفخر، مظهراً شوارع يغطيها الوحل وسيارات بالية تجرها أحصنة وأولاد حضانة يلوّحون ببنادق رشاشة صغيرة.
صحيح أن هدف الفيلم كان السخرية من الأحكام المسبقة التي يكوّنها كثر في الغرب عن بلدان الكتلة الشرقية السابقة، إلا أن نزارباييف لم يره على هذا النحو. ففي رأيه، تجب الإشادة بكازاخستان لأنها الأكثر نجاحاً بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الواقعة شرق بحر قزوين. وبعد أن نجح في إخراج الأمة سالمة من اضطرابات مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي كافة، ها هو اليوم يرسم لها مستقبلاً باهراً.
حلم كبير
كازاخستان تاسع أكبر بلد في العالم والأكبر بين الأمم التي لا تملك منفذاً على البحار المفتوحة. يبلغ طول حدودها الشمالية مع روسيا 7 آلاف كيلومتر. أما في الشرق، فتمتد حتى الصين. يحدّها من الغرب بحر قزوين ومن الجنوب قرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان. وبما أنها تقع على الحدّ الفاصل بين أوروبا وآسيا، تشارك فرقها في الاتحاد الأوروبي لكرة القدم. كذلك، تشغل راهناً الرئاسة الدورية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. يصل ارتفاع جبالها إلى 7 آلاف متر تقريباً وتضم السهول القاحلة الأوسع في العالم. فضلاً عن ذلك، تتمتع هذه الدولة بحقول نفط وغاز ضخمة، فضلاً عن احتياطاتها من الذهب والمنغنيز والفحم الحجري. وتُصنّف كازاخستان أيضاً أكبر منتج لليورانيوم حول العالم.
لكن بلاد نزارباييف الشاسعة هذه تعاني مشكلة واحدة. فلا يتخطى عدد سكانها الستة عشر مليون نسمة، أي ستة أشخاص في كل كيلومتر مربع. في المقابل، يصل عدد السكان في كل كيلومتر مربع في ألمانيا إلى 230 نسمة.
على رغم ذلك، لا يعتقد نزارباييف أن هذا الواقع سيعيق كازاخستان عن الانضمام إلى دول العالم الخمسين الأقوى، على غرار النمور الآسيوية. فكما أوضح لشعبه، كانت سنغافورة قبل 50 سنة فقط {إحدى أفقر الدول في العالم}. أما اليوم، فازداد دخلها للفرد 85 ضعفاً. واستطرد بعد ذلك موضحاً أن كازاخستان لا تستطيع أن تصبح نمراً آسيوياً لأنها لا تملك هذا النوع من النمور. لكنها تملك نمور ثلج. لذلك، وعد نزارباييف بأن تصبح كازاخستان بحلول عام 2030 {نمر الثلج في آسيا الوسطى}.
كما تُظهر الملصقات المنتشرة في مختلف أرجاء أستانا، تحرز كازاخستان تقدّماً ملحوظاً {وستتحوّل إلى دولة رائدة} في المنطقة. كذلك، تذكّر هذه الملصقات السكان بأن الناتج المحلي الإجمالي للفرد نما من 700 دولار إلى 8000 دولار خلال عقد بفضل احتياطاتها الكبيرة من الموارد الطبيعية.
تُعتبر هذه الإعلانات الوطنية مجرد كلام فارغ في الدول المجاورة لكازاخستان. يوضح نزارباييف أن شعوب هذه الدول تفتقر إلى الكهرباء والطعام. ويعود ذلك في جزء منه إلى الصراعات الداخلية على السلطة والخلافات الإثنية والتجارب الديمقراطية. فقد تعثّرت كلها عندما نالت استقلالها.
عقب الاضطرابات التي عمت دولة قرغيزستان المجاورة، أعلن نزارباييف أن هذه البلدان أخفقت في تأسيس دول فاعلة بسبب قياداتها الضعيفة. وللحؤول دون تدهور كازاخستان إلى هذه الحالة، يؤكد نزارباييف أنها تحتاج إلى {رئيس قوي}، أو بكلمات أخرى، إلى رجل مثله.
ثمن الحرّية
يخبر أميرزان كوسانوف، نائب وزير الشباب والرياضة السابق في عهد نزارباييف والأمين العام الحالي لحزب أزات (الحرية) الديمقراطي الاشتراكي: {خلال العقد الماضي، تحوّل نزارباييف إلى حاكم مستبد. فبات يعيّن رئيس الوزراء وحكّام المناطق كافة واللجنة الانتخابية، فضلاً عن جميع القضاة وصولاً إلى المحاكم المحلية. كذلك، يرأس نزارباييف حزب نور أوتان (نور أرض الآباء) الحاكم، وهو الحزب الوحيد الممثل في البرلمان. وبدأ الرئيس أيضاً بتضييق الخناق على الصحف المستقلة وطرد الخصوم الذين يهددون منصبه من البلد}.
يضيف كوسانوف مؤكداً أن الفساد مستشرٍ في البلد وأن الهوة بين الأغنياء والفقراء باتت لا تُحتمل.
علاوة على ذلك، غادرت المعارضة أستانا بعد تعرّض المنشقّين للاضطهاد. يقع مقر حزب أزات في ألماتي، العاصمة القديمة، ويشكّل ملتقى نجوم العهد السياسي الأكثر تحرراً لتأسيس كازاخستان. ففيه تعرفنا إلى رئيس سابق للبرلمان ونائب سابق لرئيس الوزراء، فضلاً عن عدد من رؤساء الأقاليم السابقين ومدّعي عامٍ سابق وأول رائد فضاء كازاخستاني. عمل نزارباييف في مرحلة ما على تنحيتهم جميعاً من مناصبهم. فصار نفوذهم اليوم محدوداً جداً.
يمسّد كوسانوف شاربيه، فيما يتحدّث بسرعة وحماسة عن الألفين والخمسمئة مناصر الذين يدعمون حزبه. ثم يقول: {انتهى زمن نزارباييف. بات نظامه ضعيفاً، وإلا لمَ قبل أن يعلنه البرلمان أخيراً قائد الأمة، ما يسمح بإعادة انتخابه حتى مماته من دون أي قيود ويحميه من أي ملاحقة جنائية؟}.
لكنّ كثراً يخالفون كوسانوف الرأي. يذكر مارات شيبوتوف المتخصّص في العلوم السياسية: {لا يُعتبر نزارباييف ديكتاتوراً. فقد سدّ هذا الرئيس فجوة عقائدية ظهرت إثر انهيار الشيوعية}. ثم يتابع موضحاً أن نزارباييف حقق نجاحات أكبر من نظرائه في قرغيزستان وطاجيكستان. ويمثّل هذا الرئيس، في رأي شيبوتوف، الرابط الوحيد الذي يبقي كازاخستان متماسكة والضامن الأكيد للازدهار المتواضع الذي تنعم به شريحة صغيرة من المجتمع. ويؤكد شيبوتوف أيضاً أن {الكازاخستانيين يتقبلون مطلق عقيدة، ما دام المال متوافراً بين أيديهم}، لذا لا يناقشون الرئيس وأفكاره إلا في جلساتهم الخاصة في المنزل.
بين التواضع وجنون العظمة
لا يسعك في كازاخستان أن تتجاهل نزارباييف. فصوره منتشرة أينما كان، في المدن وعلى جوانب الطرقات السريعة البعيدة، فضلاً عن ظهوره على شاشة التلفزيون ليلياً. يلتقي الرئيس عازفي الكمان في قصر الفنون الجديد في أستانا، ويرأس حفلة افتتاح جامعة جديدة في العاصمة، جامعة نزارباييف. كذلك، يزور مصانع المعادن ومناجم الفحم. وكيفما تنقل، تتبعه الكاميرات.
إضافةً إلى ذلك، ما من موضوع أتفه من أن يستدعي عقد مؤتمر دولي في أستانا ينال خلاله نزارباييف التكريم لدوره كسياسي ذي أهمية عالمية. مثلاً، في منتدى أستانا الاقتصادي (النظير الكازاخستاني لمنتدى الاقتصاد العالمي الذي يُعقد سنوياً في دافوس)، خطب الرئيس في {ضيوف أجانب بارزين} ودعا إلى إنشاء عملة عالمية جديدة. وفي أول مؤتمر دولي حول المعادن والفلزات عُقد في كازاخستان في شهر يوليو، طالب نزارباييف بوضع تنظيمات جديدة تضبط عملية استخراج النفط. حتى أنه نجح في تنظيم أول قمة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منذ 11 سنة، وستعقد في أستانا في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
نشرت الصحيفة الكازاخستانية الرائدة، كازاخستانسكايا برافدا، صورة لنزارباييف احتلت كامل صفحتها الأولى وأرفقتها بعبارة: {يتردد اسم نور سلطان نزارباييف على كل شفة ولسان حول العالم}. فتكريماً لدوره في العالم الناطق باللغة التركية، شُيّد نصب تذكاري له في العاصمة التركية أنقرة. كذلك، أُطلق اسمه على شارع طوله {3.5 كيلومترات} في العاصمة الأردنية عمان. وكتب أحد القراء من مدينة تركستان الجنوبية: {ستبقى أعمالك التاريخية راسخة في ذاكرة الناس طوال قرون}.
لا شك في أن أستانا تضم متحفاً مخصصاً لأول رئيس لجمهورية كازاخستان. يحتوي هذا المتحف مغزلاً وطاسات حساء وملاعق خشبية من منزل والدَي نزارباييف المتواضع، فضلاً عن أول آلة كاتبة استعملها (من نوع إريكا صُنعت في ألمانيا الشرقية سابقاً) وغرفة الاستقبال الأولى التي حظي بها وهواتفها الستة. كذلك، خُصصت غرفتان كاملتان لعرض أثواب التخرّج التي ارتداها نزارباييف خلال تسلّمه شهادات الدكتوراه الفخرية في الخارج.
صحيح أن نزارباييف لا ينفك يتأرجح بين التواضع وجنون العظمة، إلا أن كازاخستانيين كثراً سعداء بما ينجزه رئيسهم هذا. فهم يشعرون بأن بلدهم المتواضع، الذي كان في الماضي مدعاة سخرية، بدأ يحتل مكانته المناسبة في العالم الجديد. حتى كوسانوف، خصم نزارباييف السياسي، يقرّ بهذا الواقع، قائلاً: {أعداء نزارباييف ليسوا كثراً}. على رغم ذلك، يضيف مؤكداً أن المخاطر تتربص بدولة نزارباييف. ويتمثل أحدها بجارة كازاخستان القوية، الصين. لكن الخطر المباشر يتأتى من داخل عائلة نزارباييف.
{العراب}
{سيُدير لك العالم المتحضّر ظهره}. هذه كانت الكلمات التي صاح بها سفير كازاخستان إلى النمسا آنذاك قبل أن يقفل الخط. حدث ذلك في 23 مايو (أيار) عام 2007، وما هذا السفير إلا راخات علييف، زوج ابنة نزارباييف وسبب المشاكل داخل عائلته.
تبوأ علييف مناصب مهمة عدة، من بينها النائب السابق لوزير الخارجية ونائب مدير وكالة الاستخبارات، وهو أحد مالكي ما اعتُبر في الماضي سابع أكبر مصرف في كازاخستان. لكن علييف خسر حظوته عند الرئيس. فقد اتّهمه نزارباييف بالتورّط في عمليتَي اختطاف وأرسله إلى أوروبا، حيث أعلن علييف في شهر مايو عام 2007 عن نيّته بالترشّح ضد نزارباييف في الانتخابات الرئاسية عام 2012.
شكّل هذا الإعلان إهانة كبرى للرئيس. انتقد علييف عبر الهاتف نزارباييف لسنّه دستوراً جديداً يخوّله البقاء رئيساً حتى مماته. وقال: {في ذلك اليوم، تحطّم كل أمل بنمو الديمقراطية في بلدنا}.
وبعد مرور 18 يوماً على هذا النقاش الذي دار عبر الهاتف، وصلت برقية من كازاخستان حملت قرار محكمة يلغي زواج علييف من ابنة نزارباييف داريجا. يعيش علييف اليوم في المنفى، وهو مختبئ راهناً خوفاً من أن يخطفه عملاء الاستخبارات الكازاخستانيون. ومن مخبأه، يشن حملة دعائية ضد نزارباييف، الذي ينعته بـ{الطاغية الشرير}.
في كتابه The Godfather-in-Law، يدّعي علييف بأن حماه السابق عاش حياة مزدوجة، وأنه رزق بأولاد آخرين، غير بناته الثلاث، من مضيفة طيران شابة وعارضة أزياء. فضلاً عن ذلك، يزعم أن نزارباييف يملك 5 آلاف ساعة باهظة الثمن، وأن الانتقال إلى مدينة أستانا مُوّل {بمليارات مسروقة من الشعب}، وأنه تقاضى رشاوى ضخمة ليقدّم تنازلات في مجال النفط، للأميركيين خصوصاً.
ثروة عائليّة
قد لا تكون هذه سوى حملة انتقام يشنّها شخص لم ينل مراده. لكن عائلة نزارباييف لا تتمتع بسمعة جيدة في كازاخستان.
تحمل ابنة نزارباييف الكبرى وزوجة علييف السابقة، داريجا، شهادة دكتوراه في العلوم السياسية. وتملك أسهماً في مصرف ضخم، وتحكم منذ سنوات أبرز وسائل الإعلام في البلد بقبضة من حديد. ويُقال اليوم إنها باعت حصصها في شبكة {خبر} التلفزيونية الكبرى ونقلت الأموال إلى الخارج.
تصب ابنة نزارباييف الثانية، دينارا، اهتمامها على قطاع الأعمال. وقدرت مجلة الأعمال الأميركية Forbes ثروتها بـ1.1 مليار دولار. اشترت دينارا هذه السنة فيلا في منطقة بحيرة جنيف بلغ ثمنها رقماً خيالياً، 50 مليون يورو.
أما ابنته الصغرى، عليا، فمحامية قيد التدرّب، وتجني أيضاً المال الوفير. فقد أصبحت سيدة أعمال مرموقة ترأس عدداً من الشركات، فضلاً عن المجلس الاستشاري في أكبر شركة عقارية في كازاخستان. كذلك، تملك مركزاً صحياً ومطعماً وملهى في ألماتي.
وتقدّر مجلة The New Times الروسية أن ثروة آل نزارباييف مجتمعةً تبلغ نحو 7 مليارات دولار.
قلق بشأن الخلافة
يتجلى حبّ العائلة الرئاسية للمال من خلال مثال صهر آخر لنزارباييف، تيمور كوليباييف.
يشغل كوليباييف، زوج دينارا، منصب نائب رئيس تكتل صناعي حكومي كبير في كازاخستان. وقد اتهمته ثلاث من صحف المعارضة بأنه تقاضى رشاوى بملايين الدولارات من شركة صينية. لكن بعد الاستحصال سريعاً على أمر بمنع النشر من إحدى المحاكم الكازاخستانية، صودرت نسخ هذه الصحف كافة وأُتلفت.
على رغم ذلك، لا ينزعج الشعب الكازاخستاني، على ما يبدو، من النجاحات الكبرى التي تحققها العائلة الحاكمة في مجال الأعمال. لكن ما يشغل باله حقاً مسألة {بيولوجية}، على حد تعبير كوسانوف. فعلى نزارباييف قريباً أن يعالج مسألة الخلافة. ويتساءل الكازاخستانيون عن هوية مَن سيختاره ليشغل القصر الرئاسي بعده.
يعتقد كازاخستانيون كثر أنه سيختار أحد أفراد عائلته. فيظن البعض أن زوج دينارا، كوليباييف، سيمسك بزمام الحكم، في حين يعتقد آخرون أن الاختيار سيقع على أيسلطان نزارباييف، حفيد الرئيس المفضل البالغ 20 سنة والذي تخرج لتوه في الأكاديمية العسكرية الملكية في بريطانيا. لكن أيسلطان ابن راخات علييف المنشقّ {عدو كازاخستان الأول}، الذي حكم عليه نزارباييف غيابياً بالسجن مدة 40 سنة.
أرض الفرص
يتجه القطار رقم 54 من أستانا إلى مدينة أورومتشي الصينية مرة أسبوعياً، كل يوم ثلاثاء في الساعة الثالثة والخمس دقائق. يحتاج هذا القطار إلى 25 ساعة ليجتاز الألف والمئتي كيلومتر التي تفصله عن الحدود. لكن هذه الرحلة الطويلة تبدو أشبه بمغامرة مذهلة عبر تاريخ كازاخستان. يمر القطار بالقرب من قرى متداعية، حيث تقف الجرارات بلا حراك لأن المزارعين كلّهم هربوا إلى المدينة، ومن مناجم الفحم في كاراغاندا التي اشتراها الثري الهندي لاكشمي ميتال، ومن بقايا معسكرات العمل الإلزامي حيث احتُجز ألمان الفولغا بعدما أحضرهم ستالين إلى هناك. ومن ثم يعبر مسافة ستمئة كيلومتر على طول بحيرة بالكاش، التي تواجه خطر الجفاف، على غرار بحر أرال.
يكتظّ هذا القطار بالكازاخستانيين الذين يقصدون الصين لشراء البضائع والحصول على رعاية طبية في أورومتشي، عاصمة منطقة شينجيانغ التي تتمتع بحكم ذاتي. كذلك، يحمل هذا القطار رجال أعمال يتنقلون بين البلدين، مثل دومان خالمت (45 سنة). كان خالمت، الذي يرتدي بنطالاً رياضياً وقميصاً قطنياً، يسترخي في العربة الرابعة.
ولد خالمت ودرس في الصين. ومع أنه بدأ عمله كعالم مناخ، عُيّن لاحقاً مدير منطقة قرب أورومتشي. كان بعض أسلافه كازاخستانيين ثاروا ضد القياصرة الروس ثم هربوا إلى الصين. ويحاول خالمت العودة اليوم إلى كازاخستان، إذ تتوافر في هذا البلد، على حدّ قوله، {فرص لا تحصى}.
أسّس خالمت عام 2003 {دومان}، شركة تصنّع مواد لبناء الواجهات في ألماتي. ثم انتقل إلى أستانا، حيث بنى مصنعاً لإنتاج أطباق السيراميك بين ليلة وضحاها. كذلك، يملك خالمت مقهى ومصبغة في العاصمة الكازاخستانية. وينوي أن يفتتح قريباً مركزاً صحياً. يخبر رجل الأعمال هذا: {وجدت مواضع لم يشغلها أي كازاخستاني آخر}. لكنه لا يكف خلال حديثه عن الابتسام بخجل لأنه يدرك مدى خوف الكازاخستانيين من الصين.
خوف من التوسّع الصيني
يظهر هذا القلق واضحاً في مدينة دوستيك الواقعة على الحدود عند سفح سلسلة تيان شين الجبلية. تُرى عند بوابة دسونغاريان (الممر الجبلي الذي انطلق منه جنكيز خان لاجتياح الغرب وسكة الحديد الوحيدة التي تصل كازاخستان بالصين) دبابات نصف مطمورة بدأ الصدأ يتآكلها. تشكّل هذه بقايا المعارك الدامية التي خاضها السوفيات في هذه المنطقة ضد الصينيين عام 1969.
تعني كلمة دوستيك {الصداقة}. وتحوّلت هذه البلدة الصغيرة إلى مركز تجاري أساسي للسلع الكازاخستانية والصينية. فسنوياً، تُنقل 15 مليون طن من القطارات الصينية التي تسير على سكك حديد عادية إلى عربات القطار الكازاخستاني الذي يسير على سكك أعرض. فيتوجه النفط والمعادن الكازاخستانية شرقاً، في حين تُنقل معدات البناء ومواد الأنابيب الصينية غرباً. على رغم ذلك، تُشدد الحراسة على الحدود.
يخبر إرلان شاكيانوف (41 سنة)، عمدة دوستيك النشيط، أنه سمع أن الرئيس نزارباييف تحدّث إيجاباً عن عرض الصين استئجار مليون هكتار من الأراضي الكازاخستانية البور لزراعة فول الصويا وبذور الشلجم (rapeseed). لكنه سمع أيضاً ردوداً سلبية كثيرة، لأن الموافقة على هذا العرض ستعني انضمام 5 ملايين صيني إلى الخمسمئة ألف الذين يعيشون راهناً في كازاخستان.
يوضح شاكيانوف: {أعتقد أن علينا منحهم الأرض. فنحن عاجزون عن استصلاحها. وحتى لو أمكننا ذلك، فلن يكون بالكلفة البخسة عينها. علاوة على ذلك، لن نتمكن من الوقوف في وجه الضغط الصيني. فقريباً، سيعجزون عن إطعام شعبهم. لذلك، سيهددون بفتح الحدود إن لم نعطهم الأرض. فهل هذه كارثة؟ لا}. فقد باع ألكسندر الثاني ألاسكا إلى الولايات المتحدة، وفق شاكيانوف.
كل بضعة أيام، يجتاز شاكيانوف الحدود. يضم المجتمع الصيني في الجهة الأخرى أربعة أضعاف سكان دوستيك. يوضح هذا العمدة وهو يضحك: {هم أذكى منا. فقد بعناهم أخيراً أحد مصانعنا لإنتاج الفولاذ. ففكوه ونقلوه وأعادوا تركيبه في الصين. نتيجة لذلك، خسر 5 آلاف كازاخستاني عملهم، فيما حصلوا هم على وظائف إضافية. وصرنا اليوم نشتري منهم المنتجات الفولاذية التي كنا نصنعها}.
حقائق وشائعات
استثمر الصينيون 9 مليارات دولار في كازاخستان. وتضخ الشركات الصينية اليوم أكثر من ربع النفط المستخرج من الأراضي الكازاخستانية، ما يمنحهم أرباحاً سنوية تُقدّر بثلاثة مليارات دولار. ولكن إذا أردت القراءة عن إضرابات العمال الكازاخستانيين المستمرة بسبب الأجور المتدنية التي يتقاضونها، فلن تجد أي خبر عنها إلا في صحف المعارضة.
علاوة على ذلك، تموّل بكين بناء خط أنابيب يتيح لكازاخستان تصدير الغاز للمرة الأولى من حقولها الغربية إلى الصين. كذلك، يعمل أكثر من خمسين ألف عامل على بناء طريق سريع سيصل الصين بأوروبا. ومن المقرر أن ينتهي العمل على مسافة الألفين والسبعمئة والسبع والثمانين كيلومتراً من الطريق الممتدة على الأراضي الكازاخستانية خلال ثلاث سنوات، حسبما أفاد شاكيانوف.
لكن كازاخستانيين كثراً لا يشاطرون هذا العمدة موقفه الانهزامي. فهم يخشون الاعتداء الصيني. ولم تعد هذه المسألة في نظرهم مسألة هل تهاجم الصين كازاخستان، بل متى؟ يوضح مراد أيوزوف، خبير في الشؤون الصينية: {من الخطأ الاعتقاد بأن أستانا ستتمكن من إرضاء بكين بمنحها موارد طبيعية. يحتاج الصينيون إلى أراضٍ جديدة للسكن وسيرون أن هذه متوافرة في سهول كازاخستان الفارغة. ومنها سيحظون أيضاً بمنفذ على بحر قزوين وإيران}.
يخبر أحد عمال السكة الحديد في دوستيك أنه أينما ذهب في كازاخستان، سواء في أستانا أو دوستيك أو ألماتي، يسمع الناس يقولون: {إذا أردت مغادرة البلاد، فتعلّم الإنكليزية. أما إذا أردت البقاء، فتعلّم الصينية}.
ترددت قبل سنوات قصص عن تخطيط الروس والصينيين لاقتسام كازاخستان في ما بينهم. لا شك في أن هذه شائعة لا أسس لها من الصحة. على رغم ذلك، صدّقها كثيرون في كازاخستان. هؤلاء هم أنفسهم مَن لا يشاطرون نزارباييف حلمه بتحويل كازاخستان إلى نمر الثلج في آسيا الوسطى.
كازاخستان نمر الثلج فـي آسـيا الوسطى
إريخ فولاث وكريستيان نيف
تملك كازاخستان وفرة من النفط والفحم واليورانيوم وهي عاصمة تمتاز بهندستها المذهلة. ويأمل الرئيس نور سلطان نزارباييف أن يصبح اقتصادها رائداً في المنطقة، بيد أن شخصيّته الصارمة لا تلقى قبولاً عالمياً. كذلك، يخاف البعض من تأثير الصين المتنامي سلباً على هذا البلد.
بدأت رحلتنا في كازاخستان في إحدى ليالي الصيف الصافية المنعشة في أستانا، حين تعجز العتمة عن إحكام قبضتها على السهول المحيطة بهذه العاصمة.
أقيم مسرح في منتزه لوفرز خلف مبنى وزارة النفط والغاز الكازاخستانية، الذي يشبه قوس النصر. وراح كبار الفنانين الكازاخستانيين يؤدون مشاهد من تاريخ هذا البلد البدوي. كذلك، أنشد المغني الإيطالي أندريا بوتشيلي بعض أغانيه، وبدأ الضيوف الجالسون في القسم المخصّص للشخصيات المهمة بالتصفيق بحماسة. حضر هذه الحفلة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ونظيره التركي عبد الله غول وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان والعاهل الأردني الملك عبد الله. كذلك، انضم إليهم رؤساء أرمينيا وروسيا البيضاء وقرغيزستان وطاجيكستان وأوكرانيا.
جلس بين هؤلاء الرؤساء والحكّام رجل وجهه دائري خالٍ من أي تعابير، جبهته عريضة، شعره مفروق بدقة، ويرتدي بذلة رمادية. إنه الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف، وكان سيحتفل بعد بضع ساعات بعيد مولده السبعين.
حقق نزارباييف نجاحاً كبيراً في حياته المهنية. فهو الإبن البكر لراعٍ من الأرياف النائية. عمل في الفولاذ، قبل أن يصبح أمين عام الحزب الشيوعي في كازاخستان. قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، خطّط ميخائيل غورباتشوف لتعيين نزارباييف نائبه. وطوال العشرين سنة الماضية، شغل هذا السياسي منصب الرئيس في كازاخستان.
عاصمة مجيدة
في 5 يوليو (تموز) عام 2010، أقيمت في أستانا حفلة افتتاح {خان شاطر}، أكبر خيمة في العالم صمّمها المهندس البريطاني نورمان فوستر، وهي تتخطى المقاييس الهندسية كافة. صحيح أنها تبدو هشة بطبقتها الخارجية المكوّنة من البلاستيك، إلا أن برجها المخروطي (102م) القائم فوق قاعدة إهليلجية يغطي مساحة توازي 14 ملعب كرة قدم تقريباً. وتضم هذه الخيمة المتعددة الطوابق أهم مركز ترفيه في البلد. فهي تحتوي على شجر نخيل مستورد من البحر الكاريبي، أحواض سباحة حُمل رملها من ماليزيا، حدائق، منتزهات مائية، دور سينما، مركز صحي، ومركز تسلية للأولاد فيه مجموعة من لعب الأحصنة الدوارة، فضلاً عن المقاهي والمتاجر.
لا شك في أن هذه هديّة عيد ميلاد مذهلة، نظراً إلى التحذيرات التي وجّهها نزارباييف إلى رعاياه. فقد قال لحكّام الأقاليم في بلده في شهر مارس (آذار) الفائت: {لا أريد احتفالات بمناسبة عيد مولدي. هذا أمر. وإذا نظّمتم أي احتفال، خسرتم مناصبكم}. لكن الحكّام الأذكياء في بلاط نور سلطان نزارباييف الكازاخستاني حدّدوا قبل زمن العطلة السنوية للاحتفال بالعاصمة الجديدة، أستانا، يوم عيد مولده في 6 يوليو. هكذا، تمكّنوا من تقديم هدية ملائمة لحاكمهم عشية عيد ميلاده: خان شاطر.
لا شك في أن نزارباييف أراد أن يكون يوم 6 يوليو مميزاً على هذا النحو. فقد تحوّلت أنظار العالم كافة إلى دولة كازاخستان الجديدة والمزدهرة وإلى الرجل الذي يقف وراء هذه الإنجازات كافة. ذكر نزارباييف في أمسية الاحتفال: {تحوّلت أستانا إلى المشروع الأهم والأكبر في المنطقة التي كانت تابعة سابقاً للاتحاد السوفياتي}. ثم ذكّر الحضور بأنه هو مَن أمر في عام 1997 بنقل عاصمة كازاخستان من مدينة ألماتي في الجنوب إلى سهول أستانا التي تلعب فيها الرياح. وأوضح: {جوبه قراري هذا في البداية بالرفض وعدم التفهّم، لكن الجميع مسرورون اليوم. تواجَه الأفكار التقدمية غالباً بالرفض والصدّ}.
بلغ نزارباييف اليوم المرحلة الأخيرة من خطّته. فمع تشييده خان شاطر، يأمل في أن يُسكت آخر منتقدي هذه الخطوة. تُعتبر أستانا ثاني أبرد عاصمة في العالم بعد العاصمة المونغولية أولان باتور. لكن حتى لو انخفضت الحرارة اليوم إلى 40 درجة مئوية تحت الصفر، يستطيع 20 ألف شخص الاستمتاع تحت أشجار النخيل في خيمة فوستر. فإذا أمكن بناء حلقة ضخمة للتزلج على الجليد في صحاري دبي، فلمَ لا تحظى كازاخستان الباردة بمركز مناخ معتدل، مثل خان شاطر؟
انتقادات وطموحات
أنفق الرئيس الكازاخستاني هذا عشرة مليارات دولار على بناء المشاريع في سهول أستانا، محوّلاً هذه المنطقة الريفية النائية إلى جوهرة يفتخر بها. تضم هذه العاصمة القصر الرئاسي الناصع البياض، ناطحات سحاب زجاجية تأوي وزارات، مسجد نور- أستانا الذي يتسع لخمسة آلاف مصلٍّ، مقراً دبلوماسياً جديداً، وعدداً لا يُحصى من مراكز التسوّق وأبنية الشقق الفخمة، حيث يصل ثمن المتر المربع الواحد إلى 4 آلاف دولار.
شكّلت هذه المدينة الجديدة المذهلة ردّ نزارباييف الأنسب على منتقدي كازاخستان، مثل الفكاهي البريطاني ساشا بارون كوهين. ففي فيلم Borat (بورات) عام 2006، هزأ كوهين من كازاخستان، مصوراً إياها كدولة متخلّفة تكثر فيها الدعارة وتجارة الأسلحة غير المشروعة والتمييز ضد الأقليات. يذكر بطل الفيلم، المراسل التلفزيوني الكازاخستاني بورات ساغدييف، أن النساء الكازاخستانيات يحتجزن في أقفاص وأن المشروب الوطني الكازاخستاني بول أحصنة مخمّر. ثم يصوّر قريته بفخر، مظهراً شوارع يغطيها الوحل وسيارات بالية تجرها أحصنة وأولاد حضانة يلوّحون ببنادق رشاشة صغيرة.
صحيح أن هدف الفيلم كان السخرية من الأحكام المسبقة التي يكوّنها كثر في الغرب عن بلدان الكتلة الشرقية السابقة، إلا أن نزارباييف لم يره على هذا النحو. ففي رأيه، تجب الإشادة بكازاخستان لأنها الأكثر نجاحاً بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الواقعة شرق بحر قزوين. وبعد أن نجح في إخراج الأمة سالمة من اضطرابات مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي كافة، ها هو اليوم يرسم لها مستقبلاً باهراً.
حلم كبير
كازاخستان تاسع أكبر بلد في العالم والأكبر بين الأمم التي لا تملك منفذاً على البحار المفتوحة. يبلغ طول حدودها الشمالية مع روسيا 7 آلاف كيلومتر. أما في الشرق، فتمتد حتى الصين. يحدّها من الغرب بحر قزوين ومن الجنوب قرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان. وبما أنها تقع على الحدّ الفاصل بين أوروبا وآسيا، تشارك فرقها في الاتحاد الأوروبي لكرة القدم. كذلك، تشغل راهناً الرئاسة الدورية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. يصل ارتفاع جبالها إلى 7 آلاف متر تقريباً وتضم السهول القاحلة الأوسع في العالم. فضلاً عن ذلك، تتمتع هذه الدولة بحقول نفط وغاز ضخمة، فضلاً عن احتياطاتها من الذهب والمنغنيز والفحم الحجري. وتُصنّف كازاخستان أيضاً أكبر منتج لليورانيوم حول العالم.
لكن بلاد نزارباييف الشاسعة هذه تعاني مشكلة واحدة. فلا يتخطى عدد سكانها الستة عشر مليون نسمة، أي ستة أشخاص في كل كيلومتر مربع. في المقابل، يصل عدد السكان في كل كيلومتر مربع في ألمانيا إلى 230 نسمة.
على رغم ذلك، لا يعتقد نزارباييف أن هذا الواقع سيعيق كازاخستان عن الانضمام إلى دول العالم الخمسين الأقوى، على غرار النمور الآسيوية. فكما أوضح لشعبه، كانت سنغافورة قبل 50 سنة فقط {إحدى أفقر الدول في العالم}. أما اليوم، فازداد دخلها للفرد 85 ضعفاً. واستطرد بعد ذلك موضحاً أن كازاخستان لا تستطيع أن تصبح نمراً آسيوياً لأنها لا تملك هذا النوع من النمور. لكنها تملك نمور ثلج. لذلك، وعد نزارباييف بأن تصبح كازاخستان بحلول عام 2030 {نمر الثلج في آسيا الوسطى}.
كما تُظهر الملصقات المنتشرة في مختلف أرجاء أستانا، تحرز كازاخستان تقدّماً ملحوظاً {وستتحوّل إلى دولة رائدة} في المنطقة. كذلك، تذكّر هذه الملصقات السكان بأن الناتج المحلي الإجمالي للفرد نما من 700 دولار إلى 8000 دولار خلال عقد بفضل احتياطاتها الكبيرة من الموارد الطبيعية.
تُعتبر هذه الإعلانات الوطنية مجرد كلام فارغ في الدول المجاورة لكازاخستان. يوضح نزارباييف أن شعوب هذه الدول تفتقر إلى الكهرباء والطعام. ويعود ذلك في جزء منه إلى الصراعات الداخلية على السلطة والخلافات الإثنية والتجارب الديمقراطية. فقد تعثّرت كلها عندما نالت استقلالها.
عقب الاضطرابات التي عمت دولة قرغيزستان المجاورة، أعلن نزارباييف أن هذه البلدان أخفقت في تأسيس دول فاعلة بسبب قياداتها الضعيفة. وللحؤول دون تدهور كازاخستان إلى هذه الحالة، يؤكد نزارباييف أنها تحتاج إلى {رئيس قوي}، أو بكلمات أخرى، إلى رجل مثله.
ثمن الحرّية
يخبر أميرزان كوسانوف، نائب وزير الشباب والرياضة السابق في عهد نزارباييف والأمين العام الحالي لحزب أزات (الحرية) الديمقراطي الاشتراكي: {خلال العقد الماضي، تحوّل نزارباييف إلى حاكم مستبد. فبات يعيّن رئيس الوزراء وحكّام المناطق كافة واللجنة الانتخابية، فضلاً عن جميع القضاة وصولاً إلى المحاكم المحلية. كذلك، يرأس نزارباييف حزب نور أوتان (نور أرض الآباء) الحاكم، وهو الحزب الوحيد الممثل في البرلمان. وبدأ الرئيس أيضاً بتضييق الخناق على الصحف المستقلة وطرد الخصوم الذين يهددون منصبه من البلد}.
يضيف كوسانوف مؤكداً أن الفساد مستشرٍ في البلد وأن الهوة بين الأغنياء والفقراء باتت لا تُحتمل.
علاوة على ذلك، غادرت المعارضة أستانا بعد تعرّض المنشقّين للاضطهاد. يقع مقر حزب أزات في ألماتي، العاصمة القديمة، ويشكّل ملتقى نجوم العهد السياسي الأكثر تحرراً لتأسيس كازاخستان. ففيه تعرفنا إلى رئيس سابق للبرلمان ونائب سابق لرئيس الوزراء، فضلاً عن عدد من رؤساء الأقاليم السابقين ومدّعي عامٍ سابق وأول رائد فضاء كازاخستاني. عمل نزارباييف في مرحلة ما على تنحيتهم جميعاً من مناصبهم. فصار نفوذهم اليوم محدوداً جداً.
يمسّد كوسانوف شاربيه، فيما يتحدّث بسرعة وحماسة عن الألفين والخمسمئة مناصر الذين يدعمون حزبه. ثم يقول: {انتهى زمن نزارباييف. بات نظامه ضعيفاً، وإلا لمَ قبل أن يعلنه البرلمان أخيراً قائد الأمة، ما يسمح بإعادة انتخابه حتى مماته من دون أي قيود ويحميه من أي ملاحقة جنائية؟}.
لكنّ كثراً يخالفون كوسانوف الرأي. يذكر مارات شيبوتوف المتخصّص في العلوم السياسية: {لا يُعتبر نزارباييف ديكتاتوراً. فقد سدّ هذا الرئيس فجوة عقائدية ظهرت إثر انهيار الشيوعية}. ثم يتابع موضحاً أن نزارباييف حقق نجاحات أكبر من نظرائه في قرغيزستان وطاجيكستان. ويمثّل هذا الرئيس، في رأي شيبوتوف، الرابط الوحيد الذي يبقي كازاخستان متماسكة والضامن الأكيد للازدهار المتواضع الذي تنعم به شريحة صغيرة من المجتمع. ويؤكد شيبوتوف أيضاً أن {الكازاخستانيين يتقبلون مطلق عقيدة، ما دام المال متوافراً بين أيديهم}، لذا لا يناقشون الرئيس وأفكاره إلا في جلساتهم الخاصة في المنزل.
بين التواضع وجنون العظمة
لا يسعك في كازاخستان أن تتجاهل نزارباييف. فصوره منتشرة أينما كان، في المدن وعلى جوانب الطرقات السريعة البعيدة، فضلاً عن ظهوره على شاشة التلفزيون ليلياً. يلتقي الرئيس عازفي الكمان في قصر الفنون الجديد في أستانا، ويرأس حفلة افتتاح جامعة جديدة في العاصمة، جامعة نزارباييف. كذلك، يزور مصانع المعادن ومناجم الفحم. وكيفما تنقل، تتبعه الكاميرات.
إضافةً إلى ذلك، ما من موضوع أتفه من أن يستدعي عقد مؤتمر دولي في أستانا ينال خلاله نزارباييف التكريم لدوره كسياسي ذي أهمية عالمية. مثلاً، في منتدى أستانا الاقتصادي (النظير الكازاخستاني لمنتدى الاقتصاد العالمي الذي يُعقد سنوياً في دافوس)، خطب الرئيس في {ضيوف أجانب بارزين} ودعا إلى إنشاء عملة عالمية جديدة. وفي أول مؤتمر دولي حول المعادن والفلزات عُقد في كازاخستان في شهر يوليو، طالب نزارباييف بوضع تنظيمات جديدة تضبط عملية استخراج النفط. حتى أنه نجح في تنظيم أول قمة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منذ 11 سنة، وستعقد في أستانا في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
نشرت الصحيفة الكازاخستانية الرائدة، كازاخستانسكايا برافدا، صورة لنزارباييف احتلت كامل صفحتها الأولى وأرفقتها بعبارة: {يتردد اسم نور سلطان نزارباييف على كل شفة ولسان حول العالم}. فتكريماً لدوره في العالم الناطق باللغة التركية، شُيّد نصب تذكاري له في العاصمة التركية أنقرة. كذلك، أُطلق اسمه على شارع طوله {3.5 كيلومترات} في العاصمة الأردنية عمان. وكتب أحد القراء من مدينة تركستان الجنوبية: {ستبقى أعمالك التاريخية راسخة في ذاكرة الناس طوال قرون}.
لا شك في أن أستانا تضم متحفاً مخصصاً لأول رئيس لجمهورية كازاخستان. يحتوي هذا المتحف مغزلاً وطاسات حساء وملاعق خشبية من منزل والدَي نزارباييف المتواضع، فضلاً عن أول آلة كاتبة استعملها (من نوع إريكا صُنعت في ألمانيا الشرقية سابقاً) وغرفة الاستقبال الأولى التي حظي بها وهواتفها الستة. كذلك، خُصصت غرفتان كاملتان لعرض أثواب التخرّج التي ارتداها نزارباييف خلال تسلّمه شهادات الدكتوراه الفخرية في الخارج.
صحيح أن نزارباييف لا ينفك يتأرجح بين التواضع وجنون العظمة، إلا أن كازاخستانيين كثراً سعداء بما ينجزه رئيسهم هذا. فهم يشعرون بأن بلدهم المتواضع، الذي كان في الماضي مدعاة سخرية، بدأ يحتل مكانته المناسبة في العالم الجديد. حتى كوسانوف، خصم نزارباييف السياسي، يقرّ بهذا الواقع، قائلاً: {أعداء نزارباييف ليسوا كثراً}. على رغم ذلك، يضيف مؤكداً أن المخاطر تتربص بدولة نزارباييف. ويتمثل أحدها بجارة كازاخستان القوية، الصين. لكن الخطر المباشر يتأتى من داخل عائلة نزارباييف.
{العراب}
{سيُدير لك العالم المتحضّر ظهره}. هذه كانت الكلمات التي صاح بها سفير كازاخستان إلى النمسا آنذاك قبل أن يقفل الخط. حدث ذلك في 23 مايو (أيار) عام 2007، وما هذا السفير إلا راخات علييف، زوج ابنة نزارباييف وسبب المشاكل داخل عائلته.
تبوأ علييف مناصب مهمة عدة، من بينها النائب السابق لوزير الخارجية ونائب مدير وكالة الاستخبارات، وهو أحد مالكي ما اعتُبر في الماضي سابع أكبر مصرف في كازاخستان. لكن علييف خسر حظوته عند الرئيس. فقد اتّهمه نزارباييف بالتورّط في عمليتَي اختطاف وأرسله إلى أوروبا، حيث أعلن علييف في شهر مايو عام 2007 عن نيّته بالترشّح ضد نزارباييف في الانتخابات الرئاسية عام 2012.
شكّل هذا الإعلان إهانة كبرى للرئيس. انتقد علييف عبر الهاتف نزارباييف لسنّه دستوراً جديداً يخوّله البقاء رئيساً حتى مماته. وقال: {في ذلك اليوم، تحطّم كل أمل بنمو الديمقراطية في بلدنا}.
وبعد مرور 18 يوماً على هذا النقاش الذي دار عبر الهاتف، وصلت برقية من كازاخستان حملت قرار محكمة يلغي زواج علييف من ابنة نزارباييف داريجا. يعيش علييف اليوم في المنفى، وهو مختبئ راهناً خوفاً من أن يخطفه عملاء الاستخبارات الكازاخستانيون. ومن مخبأه، يشن حملة دعائية ضد نزارباييف، الذي ينعته بـ{الطاغية الشرير}.
في كتابه The Godfather-in-Law، يدّعي علييف بأن حماه السابق عاش حياة مزدوجة، وأنه رزق بأولاد آخرين، غير بناته الثلاث، من مضيفة طيران شابة وعارضة أزياء. فضلاً عن ذلك، يزعم أن نزارباييف يملك 5 آلاف ساعة باهظة الثمن، وأن الانتقال إلى مدينة أستانا مُوّل {بمليارات مسروقة من الشعب}، وأنه تقاضى رشاوى ضخمة ليقدّم تنازلات في مجال النفط، للأميركيين خصوصاً.
ثروة عائليّة
قد لا تكون هذه سوى حملة انتقام يشنّها شخص لم ينل مراده. لكن عائلة نزارباييف لا تتمتع بسمعة جيدة في كازاخستان.
تحمل ابنة نزارباييف الكبرى وزوجة علييف السابقة، داريجا، شهادة دكتوراه في العلوم السياسية. وتملك أسهماً في مصرف ضخم، وتحكم منذ سنوات أبرز وسائل الإعلام في البلد بقبضة من حديد. ويُقال اليوم إنها باعت حصصها في شبكة {خبر} التلفزيونية الكبرى ونقلت الأموال إلى الخارج.
تصب ابنة نزارباييف الثانية، دينارا، اهتمامها على قطاع الأعمال. وقدرت مجلة الأعمال الأميركية Forbes ثروتها بـ1.1 مليار دولار. اشترت دينارا هذه السنة فيلا في منطقة بحيرة جنيف بلغ ثمنها رقماً خيالياً، 50 مليون يورو.
أما ابنته الصغرى، عليا، فمحامية قيد التدرّب، وتجني أيضاً المال الوفير. فقد أصبحت سيدة أعمال مرموقة ترأس عدداً من الشركات، فضلاً عن المجلس الاستشاري في أكبر شركة عقارية في كازاخستان. كذلك، تملك مركزاً صحياً ومطعماً وملهى في ألماتي.
وتقدّر مجلة The New Times الروسية أن ثروة آل نزارباييف مجتمعةً تبلغ نحو 7 مليارات دولار.
قلق بشأن الخلافة
يتجلى حبّ العائلة الرئاسية للمال من خلال مثال صهر آخر لنزارباييف، تيمور كوليباييف.
يشغل كوليباييف، زوج دينارا، منصب نائب رئيس تكتل صناعي حكومي كبير في كازاخستان. وقد اتهمته ثلاث من صحف المعارضة بأنه تقاضى رشاوى بملايين الدولارات من شركة صينية. لكن بعد الاستحصال سريعاً على أمر بمنع النشر من إحدى المحاكم الكازاخستانية، صودرت نسخ هذه الصحف كافة وأُتلفت.
على رغم ذلك، لا ينزعج الشعب الكازاخستاني، على ما يبدو، من النجاحات الكبرى التي تحققها العائلة الحاكمة في مجال الأعمال. لكن ما يشغل باله حقاً مسألة {بيولوجية}، على حد تعبير كوسانوف. فعلى نزارباييف قريباً أن يعالج مسألة الخلافة. ويتساءل الكازاخستانيون عن هوية مَن سيختاره ليشغل القصر الرئاسي بعده.
يعتقد كازاخستانيون كثر أنه سيختار أحد أفراد عائلته. فيظن البعض أن زوج دينارا، كوليباييف، سيمسك بزمام الحكم، في حين يعتقد آخرون أن الاختيار سيقع على أيسلطان نزارباييف، حفيد الرئيس المفضل البالغ 20 سنة والذي تخرج لتوه في الأكاديمية العسكرية الملكية في بريطانيا. لكن أيسلطان ابن راخات علييف المنشقّ {عدو كازاخستان الأول}، الذي حكم عليه نزارباييف غيابياً بالسجن مدة 40 سنة.
أرض الفرص
يتجه القطار رقم 54 من أستانا إلى مدينة أورومتشي الصينية مرة أسبوعياً، كل يوم ثلاثاء في الساعة الثالثة والخمس دقائق. يحتاج هذا القطار إلى 25 ساعة ليجتاز الألف والمئتي كيلومتر التي تفصله عن الحدود. لكن هذه الرحلة الطويلة تبدو أشبه بمغامرة مذهلة عبر تاريخ كازاخستان. يمر القطار بالقرب من قرى متداعية، حيث تقف الجرارات بلا حراك لأن المزارعين كلّهم هربوا إلى المدينة، ومن مناجم الفحم في كاراغاندا التي اشتراها الثري الهندي لاكشمي ميتال، ومن بقايا معسكرات العمل الإلزامي حيث احتُجز ألمان الفولغا بعدما أحضرهم ستالين إلى هناك. ومن ثم يعبر مسافة ستمئة كيلومتر على طول بحيرة بالكاش، التي تواجه خطر الجفاف، على غرار بحر أرال.
يكتظّ هذا القطار بالكازاخستانيين الذين يقصدون الصين لشراء البضائع والحصول على رعاية طبية في أورومتشي، عاصمة منطقة شينجيانغ التي تتمتع بحكم ذاتي. كذلك، يحمل هذا القطار رجال أعمال يتنقلون بين البلدين، مثل دومان خالمت (45 سنة). كان خالمت، الذي يرتدي بنطالاً رياضياً وقميصاً قطنياً، يسترخي في العربة الرابعة.
ولد خالمت ودرس في الصين. ومع أنه بدأ عمله كعالم مناخ، عُيّن لاحقاً مدير منطقة قرب أورومتشي. كان بعض أسلافه كازاخستانيين ثاروا ضد القياصرة الروس ثم هربوا إلى الصين. ويحاول خالمت العودة اليوم إلى كازاخستان، إذ تتوافر في هذا البلد، على حدّ قوله، {فرص لا تحصى}.
أسّس خالمت عام 2003 {دومان}، شركة تصنّع مواد لبناء الواجهات في ألماتي. ثم انتقل إلى أستانا، حيث بنى مصنعاً لإنتاج أطباق السيراميك بين ليلة وضحاها. كذلك، يملك خالمت مقهى ومصبغة في العاصمة الكازاخستانية. وينوي أن يفتتح قريباً مركزاً صحياً. يخبر رجل الأعمال هذا: {وجدت مواضع لم يشغلها أي كازاخستاني آخر}. لكنه لا يكف خلال حديثه عن الابتسام بخجل لأنه يدرك مدى خوف الكازاخستانيين من الصين.
خوف من التوسّع الصيني
يظهر هذا القلق واضحاً في مدينة دوستيك الواقعة على الحدود عند سفح سلسلة تيان شين الجبلية. تُرى عند بوابة دسونغاريان (الممر الجبلي الذي انطلق منه جنكيز خان لاجتياح الغرب وسكة الحديد الوحيدة التي تصل كازاخستان بالصين) دبابات نصف مطمورة بدأ الصدأ يتآكلها. تشكّل هذه بقايا المعارك الدامية التي خاضها السوفيات في هذه المنطقة ضد الصينيين عام 1969.
تعني كلمة دوستيك {الصداقة}. وتحوّلت هذه البلدة الصغيرة إلى مركز تجاري أساسي للسلع الكازاخستانية والصينية. فسنوياً، تُنقل 15 مليون طن من القطارات الصينية التي تسير على سكك حديد عادية إلى عربات القطار الكازاخستاني الذي يسير على سكك أعرض. فيتوجه النفط والمعادن الكازاخستانية شرقاً، في حين تُنقل معدات البناء ومواد الأنابيب الصينية غرباً. على رغم ذلك، تُشدد الحراسة على الحدود.
يخبر إرلان شاكيانوف (41 سنة)، عمدة دوستيك النشيط، أنه سمع أن الرئيس نزارباييف تحدّث إيجاباً عن عرض الصين استئجار مليون هكتار من الأراضي الكازاخستانية البور لزراعة فول الصويا وبذور الشلجم (rapeseed). لكنه سمع أيضاً ردوداً سلبية كثيرة، لأن الموافقة على هذا العرض ستعني انضمام 5 ملايين صيني إلى الخمسمئة ألف الذين يعيشون راهناً في كازاخستان.
يوضح شاكيانوف: {أعتقد أن علينا منحهم الأرض. فنحن عاجزون عن استصلاحها. وحتى لو أمكننا ذلك، فلن يكون بالكلفة البخسة عينها. علاوة على ذلك، لن نتمكن من الوقوف في وجه الضغط الصيني. فقريباً، سيعجزون عن إطعام شعبهم. لذلك، سيهددون بفتح الحدود إن لم نعطهم الأرض. فهل هذه كارثة؟ لا}. فقد باع ألكسندر الثاني ألاسكا إلى الولايات المتحدة، وفق شاكيانوف.
كل بضعة أيام، يجتاز شاكيانوف الحدود. يضم المجتمع الصيني في الجهة الأخرى أربعة أضعاف سكان دوستيك. يوضح هذا العمدة وهو يضحك: {هم أذكى منا. فقد بعناهم أخيراً أحد مصانعنا لإنتاج الفولاذ. ففكوه ونقلوه وأعادوا تركيبه في الصين. نتيجة لذلك، خسر 5 آلاف كازاخستاني عملهم، فيما حصلوا هم على وظائف إضافية. وصرنا اليوم نشتري منهم المنتجات الفولاذية التي كنا نصنعها}.
حقائق وشائعات
استثمر الصينيون 9 مليارات دولار في كازاخستان. وتضخ الشركات الصينية اليوم أكثر من ربع النفط المستخرج من الأراضي الكازاخستانية، ما يمنحهم أرباحاً سنوية تُقدّر بثلاثة مليارات دولار. ولكن إذا أردت القراءة عن إضرابات العمال الكازاخستانيين المستمرة بسبب الأجور المتدنية التي يتقاضونها، فلن تجد أي خبر عنها إلا في صحف المعارضة.
علاوة على ذلك، تموّل بكين بناء خط أنابيب يتيح لكازاخستان تصدير الغاز للمرة الأولى من حقولها الغربية إلى الصين. كذلك، يعمل أكثر من خمسين ألف عامل على بناء طريق سريع سيصل الصين بأوروبا. ومن المقرر أن ينتهي العمل على مسافة الألفين والسبعمئة والسبع والثمانين كيلومتراً من الطريق الممتدة على الأراضي الكازاخستانية خلال ثلاث سنوات، حسبما أفاد شاكيانوف.
لكن كازاخستانيين كثراً لا يشاطرون هذا العمدة موقفه الانهزامي. فهم يخشون الاعتداء الصيني. ولم تعد هذه المسألة في نظرهم مسألة هل تهاجم الصين كازاخستان، بل متى؟ يوضح مراد أيوزوف، خبير في الشؤون الصينية: {من الخطأ الاعتقاد بأن أستانا ستتمكن من إرضاء بكين بمنحها موارد طبيعية. يحتاج الصينيون إلى أراضٍ جديدة للسكن وسيرون أن هذه متوافرة في سهول كازاخستان الفارغة. ومنها سيحظون أيضاً بمنفذ على بحر قزوين وإيران}.
يخبر أحد عمال السكة الحديد في دوستيك أنه أينما ذهب في كازاخستان، سواء في أستانا أو دوستيك أو ألماتي، يسمع الناس يقولون: {إذا أردت مغادرة البلاد، فتعلّم الإنكليزية. أما إذا أردت البقاء، فتعلّم الصينية}.
ترددت قبل سنوات قصص عن تخطيط الروس والصينيين لاقتسام كازاخستان في ما بينهم. لا شك في أن هذه شائعة لا أسس لها من الصحة. على رغم ذلك، صدّقها كثيرون في كازاخستان. هؤلاء هم أنفسهم مَن لا يشاطرون نزارباييف حلمه بتحويل كازاخستان إلى نمر الثلج في آسيا الوسطى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق