شهود الزور...
زوبعة في فنجان المحكمة الدولية
بيروت - نوال نصر
تتذكرون هذا الاسم: أحمد تيسير أبو عدس؟ كان شاهد الزور الأول في قضية هذا العصر التي وُلدت يوم عيد الحب، في 14 فبراير (شباط) عام 2005، نتيجة بغض كبير كبير. زلزلت الأرض يومها وسال دم الشهيد رفيق الحريري وما لبث أن اعترف أبو عدس بما اقترف، في رسالة مسجّلة، واختفى مشرّعاً كل الأبواب أمام رياح عاتية هبّت من جنبات الأرض ودحرجت مرحلة وأرست مرحلة أخرى مختلفة تماماً!
اختفى أبو عدس، مات على الأرجح، قيل إنه انتحر، وولد عشرات أبو عدس آخرون قدموا معلومات في تحقيق دولي بدأ والخشية، خشية من يعيشون المرحلة، أن يتمخّض عنه قرار ظني! وبين شاهد ملك وشاهد زور كرّت السنون عجافاً وباتت الاغتيالات لازمة المرحلة فغادر{ ثوار أرز} نادوا بالحرية والسيادة والاستقلال مضرّجين بدماء الثورة، وها إن من غادروا على عجل بتهمة القتل قد عادوا!
ماذا يحصل في لبنان؟ هل سيمفونية شهود الزور أحد ألحان المرحلة الانقلابية؟ ومن فبرك هؤلاء الشهود؟ سعد الحريري؟ فؤاد السنيورة؟ مروان حماده؟ وهل يُعقل أن يقع تحقيق دولي في غباء استخدام شهود زور شاركوا في تزييف حقائق وما لبثوا أن عادوا، بغالبيتهم، واعترفوا بأنهم كذبوا؟
ثمة قطبة خفية. ثمة لغز ومصالح وأوهام وكذب ورياء. ثمة ملف يُناصره ناس ويعاديه ناس وحوله تُحاك مشهدية لبنان، لبنان المستقبل الذي يفترض أن يكون بلا ماض، فاقداً للذاكرة، كي يبقى وإلا فعليه وعلى أهله السلام!
من فبرك شهود الزور؟ ولماذا هذا القصف العشوائي {السوري- الحزب إلهي} في هذا الوقت بالذات على شهود قيل إنهم زور منذ دُكت أولى دعائم مسيرة البحث عن حقيقة قتلة رفيق الحريري؟ وهل من يقومون بالتحقيق الدولي، أغبياء حتى الفضيحة ليستخدموا هذه النوعية من شهود الزور؟
سورية، بعد جميل السيد وحزب الله، فتحت الملف، ملف شهود الزور، واسعاً مغلِّفة إياه بمذكرات توقيف غيابية بحق ثلاث دزينات إلا ثلاثة أشخاص بتهمة المشاركة في الكذب والتلفيق والتدبير وإجبار شهود زور على تقديم شهادات تُسقط سورية في دائرة الشبهة؟ ثلاث وثلاثون مذكرة توقيف غيابية دفعة أولى، قد تليها ثانية، بينها أربعة شهود يُعدون زوراً و29 ضربوا هؤلاء على يدهم وقالوا لهم: قولوا!
من هم شهود الزور الأربعة؟ ومن هو قبلهم أبو عدس ومعهم هسام هسام الذي يسرح ويمرح في شوارع دمشق؟ وهل صحيح أن من شأن ملف كهذا يُطرح غداً على طاولة الحكومة اللبنانية، إسقاط رؤوس الكبار؟
تحقيق مفتاحه أحمد تيسير أبو عدس وختامه مفتوح على رياح!
ما زال صدى انفجار فبراير مدوياً. وتردداته، كلما مر الزمان، تتفاقم. ومنسوب جرأة ابن الشهيد كان عالياً يوم أعلن أن شهود زور ضللوا التحقيق باغتيال والده وألحقوا الأذى بسورية ولبنان وخربوا العلاقات بينهما وسيسوا الاغتيال... قال سعد الحريري ما قال وهبّ معارضو التحقيق الدولي ليشرعوا ملف شهود الزور! هو، ابن الشهيد، قال {هناك شهود زور}. في كل قضية يوجد شهود زور، فهل يُجيز ذلك هذا القصف المحموم على التحقيق الدولي والمحكمة الدولية؟ إنه تحقيق، مجرد تحقيق، تليه تحقيقات لا بدّ من أن تميّز بين الخطين الأبيض والأسود لتنتهي الى قرار ظني مدعوم بإثباتات حقيقية وقرائن لا لبس فيها. وهم، أي سورية وحزب الله وكل من يمت إليهما في البلد هبوا للتشويش على المحكمة قاصفين عمرها بقرار يضرب على وقع الثواني لحن التهويل إذا لم يستجب من حسبوا اللحظات والثواني وهم ينتظرون {الحقيقة} الى طلبهم: لا للمحكمة الدولية!
بعيداً عن القصف السياسي المبطن بتأديب عسكري، من هم الشهود؟ أحمد تيسير أبو عدس (انتحاري)، محمد زهير الصديق، ابراهيم ميشال جرجورة، أكرم شكيب مراد، عبد الباسط بني عودة وهسام هسام الذي لم تشمله مذكرات التوقيف الغيابية الصادرة عن قضاء الشام؟ ماذا قالوا؟ وعلام تراجعوا؟ وكيف بدأت القصة شاهد ملك وتحوّلت شهود زور؟
أبو عدس
في غمرة الحزن الكبير على اغتيال رفيق الحريري، أطلّ الفلسطيني أحمد تيسير أبو عدس عبر الشاشة الصغيرة، في فيلم ممنتج، ليعلن: {أنا قتلته!}. ادعى أنه ينتمي الى جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام. من هي؟ ما هي؟ كانت أول مرة يسمع فيها البشر هذا الإسم: نصرة وجهاد... وجهاد ضد مَن ونصرة على ماذا؟ وهل يمكن أن تقوم جماعة مغمورة بهكذا عمل اغتيالي يتطلّب إمكانات كبيرة وتخطيطاً وتنفيذاً؟ هل أبو عدس من إنتاج شهود الزور؟
لم تغب معادلة شاهد زور عن أبو عدس لحظة، ومن أراد تضليل التحقيق أحاطه بجملة صفات من شأنها توجيه الاتهام الى الأصولية: لحية، عمامة بيضاء، راية سوداء كتبت عليها الشهادة... بحثت قوى الأمن الداخلي عن أبو عدس في منزله في الطريق الجديدة ولم تجده طبعاً وبدأت الروايات: إنه فلسطيني، يشرّع الماسونية، يرتبط بتنظيم القاعدة ويكفّر النظام السعودي {لأنه لا يحكم بما أنزل الله}! والمفاجأة ظهور بيانات وأسماء وأرقام تثبت أن الفاعل المفترض كان معتقلاً في 6 فبراير في فرع 251 في دمشق، التابع لإدارة المخابرات العامة ويرأسه اللواء بهجت سليمان. وقيل يومها إن الشريط الذي ظهر فيه أبو عدس أرسل الى مكتب اللواء جميل السيد صباح يوم الاغتيال بواسطة سيارة من نوع {بيجو} تابعة للحرس الجمهوري في سورية بمهمة رسمية موقعة من العقيد ماهر الأسد شخصياً. وكرّت سبحة المعلومات والاتهام بدا في اتجاه شبه واحد: سورية.
اغتيال وارتباك و... ثورة. ثار اللبنانيون في وجه احتلال سوري ذاقوا فيه الأمرّين، وصدرت دعوات محلية، إقليمية ودولية بتأليف لجنة دولية للتحقيق.
أوقف أهل أول شاهد زور، وما لبث والده تيسير أبو عدس أن لفظ الروح بعد أقل من 25 يوماً على الحادث. وتبيّن حينها أن تيسير كان قد تقدّم ببلاغ الى فصيلة طريق الجديدة في 19 يناير من عام 2005 عن اختفاء ولده أحمد أبو عدس، وقيل يومها إن مجهولاً اتصل بأهله وقال لهم إن أحمد غادر الى العراق ولن يعود... غادر أحمد ولم يعد لكنه شرّع الباب أمام قضية العصر.
محمد زهير الصديق
شاهد آخر اعتبر في منطق البعض ملكاً في حين يعتبره آخرون شاهد زور. محمد زهير الصديق الرجل اللغز الذي يعرف تماماً سرّ الإعلام وأسرار الأمن والسياسة. إنه لغز بجدارة. سرّ كبير لا أحد يعرف حتى الآن، على رغم كل ما قال عن نفسه وقيل عنه، من هو؟ وأي معطيات يملك؟ ولماذا تحوم هذه السرية كلها حوله؟ ولمَ يُسمح له بالتحرّك بسهولة في مختلف أنحاء العالم؟ وهل يملك هذا الرجل حقاً ما قد يفجر به عالمنا؟ ومن هو ليملك هذه الأسرار كلها؟
محمد زهير الصديق سوري الجنسية، من بلدة صافيتا تحديداً، وفيما يقول إنه ضابط سوري يقال إنه ينتحل هذه الصفة، وبين ما قال وقيل تفاصيل كثيرة تشي بأن الرجل له في الدجل الكثير، لكنه في المقابل يملك أسراراً كثيرة أيضاً. محمد زهير الصديق ليس غبياً. وهو تحدّث عن تورّط النظام الأمني اللبناني- السوري في هذه الجريمة. وعاد بالأمس، في سبتمبر الماضي، وتحدّث عن تورّط حزب الله في الجريمة وعن امتلاكه وثائق وإثباتات لن يتمكّن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وكل حلفائه في لبنان من رفع رؤوسهم! هل يملك حقاً هذا الرجل هكذا إثباتات؟ وإذا لم يكن يملك معلومات ثابتة تُشكل منعطفاً في مسار التحقيق، فهل كانت تستقبله دولة مثل فرنسا مثلاً؟ وهل كان القضاء الإماراتي الصارم ليصفح عنه؟ الثابتة الوحيدة في هذا الرجل حتى الآن أن ثمة لغزاً ما فيه!
قصد الصديق بنفسه لجنة التحقيق وقال لها: {قمت بتنفيذ أوامر قبل الجريمة وبعدها منها نقل الرئيس السابق لفرع الأمن الداخلي في سورية اللواء بهجت سليمان من منطقة الجريمة الى منطقة عاليه في جبل لبنان، لكنني لم أعرف أن المستهدف كان الرئيس رفيق الحريري}! نصدق؟ لا؟ هو قال ما يريد وزاد: {ما زلت أملك وثائق ومعلومات لم أسلّمها بعد الى لجنة التحقيق خوفاً من تسريبها ولن أسلمها إلا أمام المحكمة... ننتظر! على أمل أن يأتي يوم نسمع فيه بصوت عال: فُتحت الجلسة!
زهير الصديق ليس شاهد زور؟ من يستطيع أن يجزم ما دام لا قرار ظنياً بعد ولا محكمة... زهير الصديق شاهد زور؟ لن نتاكد إلا عبر محاكمة... يبدو أننا في دوامة البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة!
هسام هسام
هسام طاهر هسام (سوري الجنسية) استثنته سورية من مذكرات التوقيف لكنه لبنانياً متهم بأنه شاهد زور... فمن هو؟ إنه الشاهد المقنع الذي اعترف أمام ديتليف ميليس ولجنة التحقيق بضلوع سورية وضباط سوريين في الجريمة وما لبث أن عاد عن إفادته، ليس أمام ميليس ولجنة التحقيق بل أمام الإعلام! أطلّ هسام عبر التلفزة ليقول: {انتزعوا إفادتي بالتهديد والترغيب. والإعلامي فارس خشان (الصادرة في حقه مذكرة توقيف سورية) عرض إخراجي من السجن مقابل الإدلاء بشهادة زور ضد سورية في إطار صفقة تصل قيمتها الى مليار دولار}! أخبار وروايات وفبركات كثيرة حاكها هسام الذي أصبح في سورية بمثابة بطل! إنه شاهد زور سواء حين كان مقنعاً، يوم اعترف أمام لجنة التحقيق، أو بعدما أزال القناع عن وجهه، يوم تراجع أمام سورية. لعلّه، في اختصار، شاهد الزور الأهم في مسار قضية الاغتيال، فهو بدا وكأنه عارف تماماً ما يفعل وتصرّف ليس كشاهد مغرّر به بل كلاعب يفقه أصول الانتقال من شبكة الى شبكة. وهو ذكر ضمن كلامه أسماءً كبيرة من عيار مروان حمادة وحسن السبع في سياق شهادة سُجلت على ذمته.
إبراهيم ميشال جرجورة
كما سلفه هسام وسلف سلفه الصديق والمفتاح أبو عدس، أطلّ جرجورة (سوري الجنسية وموقوف في سجن روميه في لبنان) عبر شاشة صغيرة ليعلن: {أن الوزير مروان حماده وجهات مقربة منه أجبروه بعد التهديد والوعيد والضرب والركل على الإدلاء بشهادة كاذبة أمام شقيقة الشهيد بهية الحريري ولجنة التحقيق الدولية لتوريط سورية وبعض الضباط اللبنانيين وتحديداً اللواء علي الحاج}. غريب، أي سياق هذا يعتمده هؤلاء كلهم؟ كأنه أسلوب أُعد سلفاً: يعترفون ثم يتراجعون ويتهمون الآخرين، من ثوار الأرز تحديداً، بإجبارهم على التلفيق. غريب.
أكرم شكيب مراد
شاهد زور آخر (سوري من السويداء) اعترف بضلوع ضباط لبنانيين في الجريمة وعاد عبر شريط مسجل مدته خمس دقائق و50 ثانية عن إفادته متهماً من اتهمهم هسام بتحريضه على تقديم شهادة مزورة! أيكفي أن نردد: غريب؟ هذا ما يحصل مع شهود الزور...
عبد الباسط بني عودة
استمعت لجنة التحقيق الى إفادته في دولة أوروبية، وهو فلسطيني، وله على ما قيل علاقة بالموساد ودخل لبنان في يونيو عام 2001 آتياً من اسرائيل عبر الحدود البرية وحين أوقفته استخبارات الجيش اللبناني اعترف بأنه فرّ من هناك بعدما اكتشفت اسرائيل ارتباطه بجهاز استخبارات السلطة الفلسطينية. أحيل الى المحكمة العسكرية وصدر فيه حكم بالسجن مدة 18 شهراً. وبما أنه أجنبي حصلت له مفوضية اللاجئين على قبول إعادة توطينه في السويد فأُبعد عن لبنان... وهو اعترف من هناك أن ضباطاً لبنانيين طلبوا منه عام 2004 إلصاق عبوات ناسفة بسيارة الشهيد. تحدّث أيضاً عن ضغوط نفسية تعرّض لها على يدي الاستخبارات اللبنانية والسورية لتجنيده من دون تحديد مهمة واضحة. كلام كثير اعترف به عبد الباسط، قد يكون زوراً وقد يكون حقيقة، فيه أنه طُلب منه اغتيال البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، وأنه رأى السيد حسن نصرالله خارجاً من أحد الأمكنة التي استُخدمت للتخطيط لجريمة اغتيال رفيق الحريري...
هؤلاء هم الشهود. ثمة آخرون؟ على الأرجح... زور؟ لكل طرف سياسي تسميته لهم، فمن أساؤوا إليهم يعتبرونهم زوراً ومن يبحثون عن الحقيقة عبر جمع كلام كل الشهود وغربلته يرون بهم شهوداً.
شهود الزور ملف كبير شرّع في لبنان وصوّر وكأن التحقيقات لا يتخللها عادة شهود زور وفبركات.... أما الحقيقة فلا بدّ من أن يظهرها سياق المحاكمة، فهل يُسمح بأن تسير محاكمة جريمة العصر في لبنان؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق