إضافة إلى تمتّعها بتاريخ مذهل وثروات طبيعية كثيرة، تشكّل أوزبكستان أمة يرأسها الحاكم المستبد القاسي إسلام كريموف، وهو شريك للغرب يُعتبر نقطة انطلاق مهمة في حرب حلف شمال الأطلسي في أفغانستان। ولعل أفضل مَن يمكنه سرد قصة هذا البلد السفير البريطاني السابق والدبلوماسي الألماني الأعلى رتبة هناك راهناً। يتألف بعض المدن في أوزبكستان من أحجار متراصة حزينة وإسمنت، يسكنها شعب يواصل الحياة من دون أن يعرف طعم الفرح. وثمة مدن يُعتبر اسمها بحد ذاته أسطورة، إذ تمتاز بجغرافية رائعة وتاريخ مذهل وهندسة تختطف الأنفاس، وأبرزها: سمرقند وبخارى وخيوة (خوارزم) الواقعة على طريق الحرير في أوزبكستان في آسيا الوسطى. تصطفّ هذه المدن كما لو أنها عقد لؤلؤ. فتبرز كل منها وسط حر الصحاري المحيطة بها، كما لو أنها سراب. لذلك، تُعتبر هذه أماكن سحرية. لا تشكّل قببها الفيروزية ومدارسها المزينة بالفسيفساء ونزلها وخاناتها الرائعة دليلاً على مهارات مَن بناها فحسب، بل تُظهر أيضاً طموحات المجموعات الإثنية التي تركت بصماتها بفخر على هذه المنطقة خلال القرون الماضية، من بينها الفرس واليونان والمغول والأتراك. في القرن التاسع عشر، تنافس الروس والبريطانيون للفوز بقواعد استراتيجية وموارد معدنية في هذه المنطقة في ما عُرف آنذاك بـ{اللعبة الكبرى}. بعد عام 1920، رسم جوزف ستالين الحدود بطريقة عشوائية حددت لاحقاً أمم آسيا الوسطى. واليوم، بدأت صراعات هذه المنطقة تتبلور مجدداً. أوزبكستان هي الدولة الأكثر سكاناً وربما الأكثر أهمية في بلدان آسيا الوسطى الجديدة، التي نشأت في عهد انهيار الاتحاد السوفياتي. نجح إسلام كريموف، السكرتير الأول للحزب الشيوعي في أوزبكستان في الاتحاد السوفياتي سابقاً، في الانتقال بسهولة ليتبوأ منصب الرئيس، قاضياً بعنف على معارضيه كلهم. كذلك، عيّن أفراد عائلته في مناصب مهمة في السلطة. أما اليوم، فيصبّ اهتمامه على مليارات قد يكسبها من أعمال مستقبلية. فأوزبكستان سادس دولة منتجة للقطن في العالم، تتمتع بمخزونات ضخمة من الغاز الطبيعي، فضلاً عن الذهب واليورانيوم. إذاً، أوزبكستان دولة غنية. قاعدة إمدادات تتمتّع أوزبكستان بمزايا إضافية في نظر القوى العالمية الكبرى بسبب حدودها المشتركة مع أفغانستان، لذلك شكّلت قاعدة إمدادات للحرب ضد {طالبان}. أقام الألمان أكبر وأهم قواعدهم في المدينة الأوزبكية الجنوبية ترمذ. كذلك، يسعون إلى بناء خطوط نفط وغاز تنطلق من أوزبكستان وتسد حاجات أوروبا الغربية إلى الطاقة. فضلاً عن ذلك، تشكّل مكافحة المخدرات مسألة مهمة أخرى بالنسبة إلى القوى العظمى. فبعض أهم طرق تهريب الهيروين في العالم يمرّ في هذه المنطقة ويتحكم فيه الإسلاميون الذين يهددون بنشر محاربيهم لارتكاب أعمال إرهابية خارج حدود هذه الدول. لذلك، بُثت اليوم روح جديدة في اللعبة الكبرى. وقد انضم إليها راهناً بعض اللاعبين الأقوياء، أمثال الولايات المتحدة والصين وإيران والهند وألمانيا. وها هي تتنافس مجدداً للفوز بالنفوذ في هذه المنطقة. وكما كانت الحال في الماضي، يؤدي المبعوثون الأجانب دوراً أساسياً في هذا المجال. فكما في الماضي، يبدو وجود هؤلاء واضحاً على الأرض ويبعثون بتقارير إلى بلدانهم. نجح بريطاني من منطقة نورفلوك (رجل اجتماعي ومناضل) وألماني من بلدة هولس (رجل منطوٍ على ذاته يُعتمد عليه وسهل التكيّف) في الحصول على الوظيفة التي طالما حلما بها. فقد عُيّنا سفيري بلديهما إلى العاصمة الأوزبكية طشقند. لكن كيف يتعاملان مع الحكم المستبد في بلد بالغ الأهمية بالنسبة إلى الغرب؟ هل يتملّقان الحاكم الديكتاتور ليحضَّاه على تقديم تنازلات؟ لا شك في أن هذا يخدم مصالح السياسيين الأوروبيين والمسؤولين العسكرين، وربما أيضاً الناشطين في مجال حقوق الإنسان المسجونين الذين ما كانوا ليبصروا النور مجدداً لولا ضربة حفيفة على المعصم وراء الكواليس. أو ربما عليهما مواجهة هذا الحاكم المستبد. فينتقدان انتهاكاته لحقوق الإنسان ويفضحان هذا النظام، مخاطرين بانقطاع العلاقات معه وخسارة كل تأثير لهما فيه. وبما أن عليهما اتباع توجيهات حكومتيهما، فما مدى هامش الحرية الذي يُعطى لهما لاتخاذ القرارات بنفسيهما؟ نظراً إلى مقارباتهما المختلفة وشخصيّتيهما المتناقضتين، ما من قاسم مشترك بين هذين السفيرين غير التزامهما الصادق نحو بلدهما المضيف الذي يصعب التعامل معه. السفير البريطاني كريغ موراي (51 سنة) والسفير الألماني فولفغانغ نيون (63 سنة) سفيران من نوع مختلف... إليكم قصّتهما. دخيل وحديث نعمة في صيف عام 2002، لم يكن قد مرّ على وجود الموفد البريطاني في طشقند أكثر من بضعة أسابيع. وقد تسنى له أخيراً التقاط أنفاسه بعد انتهائه من مراسم التعيين الإلزامية في قصر باكينغهام. كريغ موراي فخور بنفسه، فبعدما تنقل في مناصب دبلوماسية عدة في بولندا وروسيا وأفريقيا، صار أصغر سفير تعيّنه الحكومة البريطانية. كان آنذاك في الثالثة والأربعين من عمره وقد أُرسل إلى بلد مهم تتنازع عليه شتى القوى. في المقابل، شعر موراي هناك وكأنه دخيل في نادٍ لخريجي المدارس الخاصة وأكسفورد وكامبريدج. فلم يستطع فهم نكاتهم، ومقت سلوكهم المتعجرف، لا سيما أنه يتحدر من عائلة تنتمي إلى الطبقة العاملة، وقد حصّل علومه في جامعة داندي لا المؤسسات التعليمية رفيعة الشأن في بريطانيا. كذلك هو يعتقد أن الجميع في المجتمع البريطاني، الذي يعاني الطبقية، يدرك في الحال أنه دخيل وحديث النعمة. لعل هذا سبب ميله إلى التمرّد وإحساسه العميق بالعدالة، لذا يؤكد أن النضال وعدم تقبّل الرفض شعاره في الحياة. المشاركة في العيد الوطني الأوزبكي مهمة إلزامية للدبلوماسيين في هذا البلد. ويتطلّب البروتوكول في طشقند وصول السفراء إلى موقع الاحتفال قبل ساعات من بدئه، ما يرغمهم على تمضية ساعات في الخارج متحمّلين حرارة الطقس التي تصل إلى 40 درجة مئوية، من دون أن يجرؤ أحدهم على الشكوى. لكن موراي لم يرضَ بهذه المعاناة، فبعث برسالة إلى الحكومة الأوزبكية أبلغها فيها أنه لن يصل إلى موقع الاحتفال في المستقبل إلا قبيل بدئه. ونتيجة هذه الخطوة، فاز بتقدير زملائه الدبلوماسيين، الذين ما كانوا ليتجرأوا على اتخاذ خطوة مماثلة. بيد أنها نفّرت إدارة كريموف. بخلاف زملائه الدبلوماسيين وسابقيه من سفراء بريطانيين الذين صبوا اهتمامهم على العاصمة، أصر موراي على السفر إلى مختلف المناطق الأوزبكية الجميلة، مثل سمرقند. لكنه قصد أيضاً مناطق تخلو من الطرقات المعبدة والفنادق الفخمة، مثل وادي فرغانة، منطقة نائية واقعة تحت تأثير الأصوليين، وما تبقى من مناطق مأهولة على بحر آرال، حيث يعاني الناس ظروفاً حرجة جداً. وثيقة بشعة اكتشف موراي خلال أسفاره هذه أن بعض المصانع الذي تتقاضى لقاءه الحكومة تمويلاً أجنبياً لا وجود له. كذلك، حافظ على اتصاله بناشطي حقوق الإنسان الذين تجرأوا على انتقاد كريموف، وحضر محاكمات سياسيين معارضين اتُّهموا بالإرهاب والتمرّد ضد الحكومة. صحيح أن معظم المتهمين إسلاميون، لكن تورّطهم في أي جرم يبقى مسألة مشكوكاً فيها. فقد أدلى الشهود بإفادات متناقضة، وتآمر المحامون، الذين تقاضوا رشاوى على الأرجح، مع الادعاء. حتى أن أحكام الإعدام باتت تصدر يومياً عن هذه المحاكم. فصُعق موراي. كذلك، تناهت إلى مسمعه أخبار عن حالة تعذيب مروعة. فبدت له هذه التقارير عالية المصداقية، إلا أن ما من دليل يثبتها لأن الشرطة ترفض تسليم الجثة لأقارب المتهم. ذات مساء، قدِمت إلى السفارة امرأة كانت تنوح وتشدّ ملفاً إلى صدرها. لقد تمكنت من فتح كفن ابنها والتقطت سراً صوراً لجثته المشوّهة. راحت تقول: {كان معارضاً للنظام، لذلك أنزلوه في الماء المغلي وعذبوه حتى الموت}. اشمأزّ موراي مما سمع، فقرر أن يرسم مثالاً يُحتذى به. أرسل الصور في طرد دبلوماسي إلى قسم علم الأمراض في جامعة غلاسكو وطلب رأي الخبراء فيها. وبعد أسبوعين، قدّم الأطباء الشرعيون المحترفون تقريرهم، الذي جاء فيه أن الضحية تعرضت لضربات عدة وأن أظافره نُزعت. أما سبب الوفاة الذي رجّحه الخبراء فكان إنزال الجسم في سائل مغليّ. أبلغ موراي حكومته وحرص على تمرير هذه المعلومات إلى مختلف الدبلوماسيين في طشقند. فقال له مدافع أسترالي عن حقوق الإنسان بإعجاب: {لا شك في أنك لست سفيراً اعتيادياً}. فردّ موراي بفخر: {آمل ذلك}. لكنْ ثمة وجه آخر لموراي البطل الذي يبدو مربوع القامة بشعره الأشقر ونظارتيه الملوّنتين. فهو لا يكسر القواعد بسبب مبادئه ومعتقداته، بل حباً بالاستفزاز. وعلى رغم ارتدائه خاتم زواج، يُعتبر زير نساء. وفضلاً عن عشقه للمرأة، يهوى الكحول وهو خبير في مختلف أنواع الوسكي. يتقن موراي فن التظاهر والادعاء، حتى أنك تخاله أحد الباشاوات. فقد حضر مراسيم تسليمه أوراقه الرسمية لرئيس الجمهورية وهو يرتدي تنورة. فتصدرت صوره أخبار التلفزيون الأوزبكستاني طوال أيام. كذلك، تردد على الملاهي الليلية وملاهي الرقص الشرقي في طشقند واشتهر بتعامله بسخاء مع الراقصات. رجل معتدل تبدو الدرب التي اجتازها الدبلوماسي الألماني فولفغانغ نيون قبل وصوله إلى آسيا الوسطى طويلة ومعقدة. وُلد نيون في بلدة هولس في ألمانيا الغربية. وعُين في بعثات دبلوماسية إلى شيكاغو، العاصمة اليمنية صنعاء، فاليتا في مالطا، برازافيل في جمهورية الكونغو، وباريس قبل أن يُستدعى إلى طريق الحرير عام 2000. لكن قبل أن يُرسل إلى طشقند، خدم نيون أولاً سفيراً لدى دولة طاجيكستان المجاورة. في العاصمة الطاجيكية دوشنبه، لا يختلف الرئيس إيمومالي رحمون كثيراً عن كريموف، فهو على القدر نفسه من الاستبداد والعنف. صحيح أن طاجيكستان تقبع في ظل موسكو، إلا أن رحمون يتمتع بمقدار كاف من السلطة ليناور القوى العظمى. عقب الاعتداءات الإرهابية في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 وغزو أفغانستان، اعتبرت واشنطن والاتحاد الأوروبي والصين فجأة هذا البلد الصغير الذي يتحلى بطبيعة جبلية حليفاً مهماً. حضّ السفير الألماني هذه الدول على توخّي الاعتدال. يعتبر نيون، زوج وأب مثالي، أن الاجتماعات السرية مع الإسلاميين توازي شرب الكحول والخيانة الزوجية سوءاً. فهو رجل محترم يُعتمد عليه وواضح في تصرفاته كافة، إنما يفتقر إلى الإثارة. يُلقبه رجال الأعمال الذي كسب احترامهم باستخدامه علاقاته الحكومية الجيدة ليفتح أمامهم مختلف الأبواب بـFürst Bismarck Quelle، اسم زجاجات المياه التي لا تخلو منها طاولته. تصرّفات مشينة أدلى موراي ببعض التصريحات الجريئة في طشقند. ففي خطاب ألقاه عام 2002 في مؤتمر رعته منظمة بيت الحرية، ذكر: {يجب ألا يقلل أحد من شأن مخاوف حكومة أوزبكستان الأمنية الحقيقية والصعوبات التي تواجهها في التصدي لكل مَن يسعى إلى استخدام الدين ومشاكل الفقر للترويج للإرهاب... لكن دعوني أشدد على النقطة التالية: لا يحق لأي حكومة أن تستخدم الحرب ضد الإرهاب كعذر لاضطهاد كل مَن يعرب عن التزام شخصي عميق بالدين الإسلامي ومَن يسعى إلى تحقيق أهدافه بالسبل السلمية. إلا أن المحزن أن الغالبية العظمى ممن سُجنوا ظلماً في أوزبكستان تندرج في هذه الخانة}. حذّره أحد زملائه من سفارة أخرى يفضّل عدم ذكر اسمه من مغبة أفعاله، مقتبساً قول أوسكار وايلد: {إذا أخبرنا أحد الحقيقة، فلا شك في أنه سيصبح خارجاً عاجلاً أو آجلاً}. كذلك، جاء رد لندن سريعاً. فقد لُفت نظر موراي إلى ضرورة عدم تخطّيه صلاحياته والكف عن التصرف بطريقة {غير وطنية}. فكانت إدارة رئيس الوزراء آنذاك توني بلير، تتمسك بسياسات إدارة الرئيس الأميركي حينذاك جورج بوش الإبن. فقد اعتبرت الولايات المتحدة أن أوزبكستان حليف مهم وأن التفاصيل الأخرى كافة تحتل مرتبة ثانوية مقارنة بهذا الواقع. نتيجة هذه الضغوط، قرّر موراي الكف عن التفكير في هذه المشاكل، وحين التقى في أحد الملاهي بنادرة، راقصة في الثانية والعشرين من عمرها تتمتع بساقين طويلتين، وقع في حبّها. ليست سيرة نادرة الذاتية مثالية بالنسبة إلى فتاة من أوزبكستان. فقد أمضت مراهقتها بين تجار المخدرات، وعملت لاحقاً كمدرّسة براتب بالكاد أمّن لها القوت. ينظر موراي بواقعية إلى علاقته بهذه الراقصة، التي تستطيع بقوامها الرشيق الفوز بمباراة ملكة جمال العالم. يخبر: {تكون الحسناوات بعيدات المنال بالنسبة إلى رجل ممتلئ الجسم غزا الشيب شعره واختلّت أسنانه}. لكنه يملك الكثير ليقدّمه لها. ولا يمانع في أن يمضي وقتاً طويلاً في النضال للفوز بهذه الشابة الواثقة من نفسها. عندما فشل زواجه، انتقلت نادرة للعيش معه. وهو بدوره لم يخفِ هذا الواقع، بل اصطحبها معه إلى المناسبات الرسمية. وعندما كانت تسأله عما يجب أن ترتديه، كان يطلب منها أن تشتري ثوباً جميلاً. فتختار نادرة ثياباً تشبه زي المدرسة مع تنورة شديدة القصر، فصارت حديث طشقند. ولا شك في أن الحكومة البريطانية علمت بمغامرات موراي. هكذا، كبر حجم الملف الذي يحتوي ذلاته وتصرفاته السيئة. لكن موراي واصل اللعب بالنار. فأرسل إلى لندن برقيات مشفرة تتهم الولايات المتحدة باستخدام معلومات تستند إلى اعترافات انتُزعت تحت التعذيب في أوزبكستان. كذلك، علم لاحقاً أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت تنقل سراً إرهابيين مشتبهاً بهم إلى طشقند كي يُستجوبوا تحت التعذيب. فضلاً عن ذلك، استهجن موراي {أن تستخدم أجهزة الاستخبارات البريطانية معلومات مستمدة من هذه الممارسات المشينة}. إلا أن لندن رفضت إعطاءه إجابة واضحة. فراح موراي يسخر مراراً من سذاجة المسؤولين الحكوميين في بلده. وعندما سألته مسؤولة كبيرة قادمة من لندن كانت تخشى وباء الانفلونزا المتفشي عمَّا إذا كان يلزم أن ترتدي قناعاً خلال رحلتها إلى طشقند، ردّ عليها برسالة إلكترونية كتب فيها: {لا أعلم. يعود ذلك إلى مدى بشاعتك}. عار على الخارجية البريطانيّة لم تعجب تصرفات موراي وزارة الخارجية البريطانية. لذلك، نُصح هذا الدبلوماسي الفظ بالاستقالة. وعندما رفض ذلك، اتخذت وزارة الخارجية خطوات تأديبية بحقه. إلا أن انتقاداته لكريموف لم تشكّل جزءاً من التهم التي ساقتها الحكومة ضده، رسمياً على الأقل. فقد اتُّهم بالذهاب إلى العمل وهو ثمل، استخدام سيارته الرسمية للقيام بنزهات خاصة، ومنح تأشيرات سفر بريطانية مقابل خدمات جنسية. استشاط موراي غضباً عندما علم بمحاولة اغتيال مسيرته المهنية هذه، فأصيب بانهيار عقلي وجسدي، نُقل إثره إلى لندن في ظل ظروف غريبة، وأدخل إلى قسم الأمراض العقلية في مستشفى سانت طوماس. وعن هذا المستشفى يقول موراي: {كان مطهري الخاص}. بعدما تعافى، أقنع موراي وزارة الخارجية بأن تسمح له بالعودة إلى طشقند، حيث حارب التهم الموجهة ضده بكل ما أوتي من قوة. وفي النهاية، أمرت الحكومة البريطانية بتعليق مهامه، لتكون هذه أسوأ نهاية لمبعوث بريطاني منذ قُطع رأس تشارلز ستودارد في بخارى عام 1842. دعا وزير الخارجية جاك سترو موراي {عاراً على وزارة الخارجية البريطانية برمتها}. لكن موراي تلقى رسائل تعزية من {اليساريين} المعهودين. فقد وصفه الكاتب المسرحي هارولد بينتر، الحائز جائزة نوبل للأدب، بالرجل النبيل. كذلك دعته الممثلة مانيسا ريدغريف إلى العشاء. أما اللغوي نعوم تشومسكي فلا ينفك يبعث إليه برسائل الدعم والتشجيع. في النهاية، يتبيّن أن موقف موراي من كريموف مبرر. ففي شهر مايو عام 2005، أمر هذا الحاكم المستبد القوى الأمنية بإطلاق النار على المتظاهرين في وادي فرغانة. ويُعتقد أن أكثر من 700 شخص قُتلوا في مدينة أنديجان الأوزبكية. وقد يكون عدد الوفيات ضعف ذلك، بيد أن كريموف منع إجراء تحقيق مستقل وادعى أن الضحايا كانوا جزءاً من انتفاضة إسلامية. وفي ضوء هذه التعديات الوحشية، ما عاد بإمكان لندن وواشنطن مواصلة تعاملهما مع كريموف كالمعتاد. فأصدرتا احتجاجات حادة عبر الأقنية الدبلوماسية كافة. تملّق الديكتاتور الأوزبكي غادر السفير نيون آسيا الوسطى قبل فضيحة موراي ومجزرة أنديجان. رأس نيون آنذاك في واشنطن مركز المعلومات الألماني، الذي أنشئ لتخطّي النفور بين الولايات المتحدة في عهد بوش وألمانيا خلال عهد غيرهارد شرودر. فبرهن مراراً عن مهاراته كدبلوماسي دمس الأخلاق ومصلح يجيد الوساطة. بعد واشنطن، عاد نيون إلى ألمانيا ليرأس قسماً في وزارة الخارجية. وفي عام 2009، عُيّن أخيراً في طشقند. كان في الثانية والستين من عمره، أي أكبر بعقدين مما كان عليه موراي حين تسلّم منصبه في أوزبكستان. وبطبيعة الحالة، ستكون مهامه في أوزبكستان آخر ما سيتبوأ نيون. أوضح هذا الدبلوماسي الماهر أمراً مهماً منذ البداية: لن يعفي كريموف من معالجة المسائل الحساسة في الكواليس، وهو أيضاً سيقابل الناشطين في مجال حقوق الإنسان (يحاولون تعزيز المجتمع المدني) إلى الحد الذي يراه مناسباً. لكن هذه الخطوات كافة نُفذت بصمت. فلم تكن لنيون أي نية بمهاجمة النظام علانية أو معارضة السياسة التي تتبعها برلين. شملت هذه السياسة تملق الديكتاتور الأوزبكستاني. قبلت ألمانيا بعقوبات فرضها الاتحاد الأوروبي على طشقند عقب مجزرة أنديجان، إلا أنها طالما تحايلت عليها. فقد رُفع الحظر عن سفر كبار السياسيين الأوزبكيين إلى ألمانيا عام 2005، حين منح وزير الداخلية الأوزبكي ذاكر ألماتوف تأشيرة دخول خاصة ليتلقى علاجاً طبياً في هانوفر. وفي أكتوبر عام 2009، كانت ألمانيا القوة المحركة وراء قرار رفع الاتحاد الأوروبي حظر تصدير الأسلحة إلى أوزبكستان. قال كريموف أخيراً: {حقق بلدنا تقدماً كبيراً يدركه العالم بأسره ويقدّره}. لكن هذا الديكتاتور هو الوحيد على الأرجح القادر على رؤية هذا الجانب الإيجابي. فقد أعلنت منظمة الشفافية الدولية أن أوزبكستان إحدى الدول السبع الأكثر فساداً في العالم. أما في تصنيف {مراسلون بلا حدود} للبلدان وفق حرية الصحافة المتوافرة فيها، فاحتلت أوزبكستان المرتبة الستين بعد المئة بين 175 دولة. كذلك، أعطت منظمة التراث الأميركية المحافظة هذا البلد المرتبة الثامنة والخمسين بعد المئة في تصنيفها للبلدان وفق الحرية الاقتصادية. بدورها، تنتقد منظمات حقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية ومراقبة حقوق الإنسان، أوزبكستان بشدة بسبب عمالة الأطفال المشينة في حقول القطن، أعمال التعذيب المنتظمة، وقرارات المحاكم العشوائية. فقد حُكم أخيراً على ماكسيم بوبوف، الناشط في مجال مكافحة الأيدز، بالسجن مدة سبع سنوات لمشاركته في جهود ترمي إلى منع انتقال فيروس نقص المناعة المكتسبة... في أوزبكستان، الذي يزعم حكامه أنه بلد مثالي، لا يُسمح مطلقاً بتسليط الضوء على المشاكل الاجتماعية. تعتقد الإدارتان السابقتان في برلين (ائتلاف الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر خلال عهد المستشار شرودر، وائتلاف الحزب الديمقراطي الاجتماعي والاتحاد المسيحي الديمقراطي خلال عهد المستشارة أنجيلا ميركل) لأسباب سياسية ألا خيار أمام ألمانيا إلا التوافق مع كريموف. ويواصل الائتلاف الحكومي الحالي برئاسة ميركل وبالشراكة مع الحزب الديمقراطي الحر الموالي للأعمال هذا المسار. يملك الألمان قاعدة نقل جوية استراتيجية في ترمذ قرب الحدود الأفغانية، وتشكّل محوراً أساسياً لنقل الإمدادات إلى الجنود الألمان في الحرب الأفغانية. فكل جندي يُرسل إلى أفغانستان يحط في أوزبكستان لينتقل من طائرة أيرباض إلى طائرة ترانسال. ولا يستطيع الجيش الألماني إتمام مهمته من دون حسن نوايا كريموف، التي يتقاضى لقاءها مبالع طائلة سنوياً تُقدّر بعشرين مليون يورو (28 مليون دولار). يأس موراي واجه السفير السابق موراي مشقات كثيرة عقب استقالته القسرية من السلك الدبلوماسي. ففضلاً عن إصابته بانهيار عصبي، عانى أيضاً مشاكل في القلب وأخرى مالية. وقد طلبت زوجته الطلاق. ولا شك في أن ما تبقى له من مال ستأخذه هي والأولاد. استصعب موراي تحمّل انتقادات رؤسائه. حتى أنه فكّر مراراً في الانتحار. إلا أن صديقته نادرة التي قدمت معه من أوزبكستان إلى إنكلترا منعته من ذلك. فهو يسدد تكاليف دروس الرقص التي طالما حلمت بها، مع أنهما لا يستطيعان أحياناً تحمّل كلفة شراء البيتزا. إضافة إلى أن خسارته مكانته الاجتماعية تضاهي خساراته المالية قسوة. وكان لذلك وقع قوي في نفسه، مع أنه ما زال يصرّ على أنه يستمتع بكونه {دخيلاً}. لكن الأمور ما لبثت أن تحسنت. فقد أقنع محامي موراي الحكومة البريطانية بسحب التهم التي توجهها ضده (باستثناء تهمة انتهاكه قواعد السرية). لذلك، حصل على تسوية قدرها 460 ألف يورو لقاء تركه وزارة الخارجية. اشترى موراي بهذا المال شاحنة قديمة حمراء اللون وخاض حملة انتخابية في بريطانيا. اختار مقاطعة محددة، مقاطعة عدوه اللدود جاك سترو، لأنه كان يبحث عن الانتقام. لكن بما أنه مرشح مستقل، لم يحصل إلا على 2085 من الأصوات. فدفعته خيبة أمله إلى القول إن نظام الانتخابات البريطاني بعيد كل البعد عن الديمقراطية، تماماً كالنظام الأوزبكي. لكنه سيواصل نضاله ضد الظلم. موراي المذهل مزيج من بطل اسكتلندي مستعد لمواجهة الطغاة ودون كيشوت يترنح أمام الطواحين ومايكل كولهاس القادر على تخطي العقبات كافة في سبيل إحقاق العدالة. في مطلع عام 2008، احتفلت نادرة، بعدما أنهت تدريبها في الأكاديمية الملكية للفن الدرامي، بنجاحها الصغير الأول كممثلة. اقتبست مسرحيتها المعدة لممثل واحد، والتي قدّمت على أحد مسارح لندن المتواضع، من حياتها، وحملت العنوان {راقصة السفير البريطاني}. لا أحد بسلام في يونيو عام 2010، قمنا بزيارة أخيرة إلى فولفغانغ نيون في السفارة الألمانية في طشقند. تقع هذه السفارة في مبنى بشع قرب نصب أقيم تخليداً لذكرى مَن لقوا حتفهم في زلزال طشقند. فتناولنا زجاجة مياه معدنية في مكتبه الذي يضم قليلاً من الأثاث. أكّد نيون أن عمله يتطلب توازناً دقيقاً، ثم أشار إلى أهمية أوزبكستان بالنسبة إلى ألمانيا. لكن ذلك لا يعني، في رأيه، أن بإمكاننا التغاضي عن غياب الديمقراطية في طشقند. لذلك، من المهم لفت الانتباه دوماً إلى التطورات غير المرغوب فيها، وفق نيون. وتابع قائلاً إن مهمته كسفير حالي وموظف حكومي يدرك جيداً مصالح ألمانيا تفرض عليه عدم التعليق على تفاصيل عمله. لكن الأوساط الدبلوماسية تؤكد أن انتقادات هذا السفير اللطيف لاقت النجاح في مسائل عدة. وإحدى هذه المسائل قضية أوميدا أحمدوفا. فقد اتهمت هذه المصورة بـ{إهانة الشعب الأوزبكي}، لأنها صورت الحياة في القرى الأوزبكية على أنها متخلّفة. حين توسّط نيون لمصلحتها، نجت أحمدوفا من تمضية ثلاث سنوات في السجن. لكن ألا يجب أن يعبّر مبعوث برلين عن آرائه بطريقة أكثر حزماً وصراحة؟ تحدث نيون عن بناء الجسور والتوصّل إلى تفاهم. فبدا كما لو أنه يكتب خطاباً لرب عمله الجديد، الرئيس الألماني كريستيان وولف. وعندما كثرت الأخبار عن جدال حامٍ دار بين السفير الألماني ووزير العدل الأوزبكي الذي يشتهر بعناده، رفض السفير الألماني التعليق على هذه المسألة. لا شك في أن كل مَن يتحدث إلى هذا الدبلوماسي ويطلع على التجارب التي مر بها خلال تنقله في هذا البلد يدرك أن قلبه سيصبح عما قريب ممزقاً بين نقيضين. لكن يبدو واضحاً أن الأسباب القاهرة التي تمليها عليه برلين، التي توجب الحفاظ على علاقات جيدة، ستكون لها الغلبة في النهاية. هل يعود نيون إلى ألمانيا عند تقاعده بعد سنتين؟ أجاب وهو يمرر يده فوق شعره المفروق بعناية بأن هذا مرجح. يريد هذا الدبلوماسي أن يمضي فترة تقاعده بهدوء وسلام، مع قيامه برحلة قصيرة إلى مناطق طريق الحرير من حين إلى آخر. إنسان ضعيف في خريف عام 2010، قمنا بزيارة أخيرة إلى كريغ موراي في منزله المتواضع جداً في منطقة أكتون، أحد أحياء غرب لندن. كانت العشرات من زجاجات الوسكي تصطفّ في مكتبه كما لو أنها جوائز فاز بها. عام 2007، عُيّن مسؤولاً في جامعة داندي مدة ثلاث سنوات، عمل مثّل فيه الطلاب في إدارة الجامعة التي تخرج فيها. وبعد تركه الجامعة، شغله مشروع كتابة مذكراته، التي نُشرت بعد صراع قانوي دام طويلاً, وقد اضطر موراي إلى حذف تفاصيل ووثائق كثيرة رغب في تضمينها كتابه هذا. احتوى الكتاب بعضاً من التفاصيل المذهلة وكماً من الأخبار المبالغ فيها. فقد أورد فيه موراي انتقادات كثيرة وجهها إلى نفسه، مثل: {لست بطلاً، بل رجل ضعيف جداً. لكن حين رأيت التعذيب الذي يتعرض له المسنون والنساء والأولاد، لم أشكك لحظة في واجبي كممثل للأمة البريطانية وفي ما يمليه علي هذا الواجب. كيف يُعقل أن تكون النزاهة في الحياة العامة نادرة إلى حد أن مَن يتحلى بها يُعتبر بطلاً لأنه أعرب عن مقدار ضئيل من الحشمة؟}. يبدو أن هذه المذكرات قد تلقى القبول في هوليوود قريباً. ذكر موراي: {أقول بكل تواضع إن كثيراً من أفلام جيمس بوند دار حول قصص أقل تشويقاً من مذكراتي}. فقد أعرب براد بيت عن اهتمام بها ويُحتمل أن يُنتجها. قد تؤدي أنجلينا جولي دور نادرة، أو ربما نادرة نفسها قد تجسّد هذا الدور. لكن هذه الحسناء الأوزبكية رفضت التعليق على هذه المسألة. فقد أخذت استراحة وجيزة من التمثيل لتخصص وقتها لعائلتها، بعدما نجحت في ترويض محب الحفلات هذا والزواج به، فأنجبت صبياً أعطته اسم كاميرون، تيمناً بقبيلة اسكتلندية قديمة، لا رئيس وزراء بريطانيا الجديد. انضم موراي إلى الديمقراطيين الليبراليين، لكنه يشعر راهناً بالاستياء من هذا الحزب لأنه شكّل تحالفاً مع المحافظين، فيما هو لا يحب التسويات. ولا تزال مسيرته المهنية في تقدّم مستمر، ربما نحو الشهرة العالمية أو نحو الزوال. لكن بغض النظر عن الاتجاه الذي تسلكه، لا تخلو حياة موراي من الإثارة. أما حياة نيون كموظف حكومي رفيع الشأن فتسير بفخر ومن دون أي عائق نحو التقاعد. استرضاء الديكتاتور المستفز ومحب التهدئة، الرجل الذي يرفض الاعتذار والرجل الذي يملك تفسيراً لكل أمر، الرجل الذي يثير غضب الجميع والرجل الذي يلقى استحسان الجميع لم يلتقيا البتة. ولكن يمكننا القول إن {ماهاراجا الخمرة} وFürst Bismarck Quelle لا ينظران إلى أحدهما الآخر إلا نظرة احتقار. فعندما يتحدث نيون عن موراي في مكتبه في السفارة بطشقند، يهمس قائلاً: {عندما تعمل كدبلوماسي، عليك أن تفهم مواصفات عملك وتلتزم بها. فلا يزال السفير البريطاني الحالي يحاول إصلاح ما خربه سلفه}. أما موراي، فيكاد يصرخ معبّراً عن رأيه بنيون في منزله بلندن. فيذكر: {الألمان! في أوزبكستان، كانوا الأكثر سعياً، من بين البلدان الغربية كافة، إلى استرضاء الديكتاتور. فهل هذا ما تعلّموه من تاريخهم}. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق