أوّل أيام صدام.. بروبغندا البعث العبثية
احتوى الملف «FCO 8/3402» في دار الأرشيف البريطاني على وثيقة بعنوان «يوم في حياة الرئيس صدام حسين». وتنقل هذه الوثيقة تقريرا صحافيا بالانجليزية عن أوّل أيام الرئيس العراقي في السلطة نشرته «وكالة الأنباء العراقية» (اينا) بتاريخ 19 يوليو (تموز) 1979، أي بعد مضي ثلاثة أيام من تولي صدام مهامه التنفيذية رسميا، وأرسلته السفارة البريطانية في بغداد إلى وزارة الخارجية بلندن.
ويتضح من نشر التقرير (باللغتين العربية والانجليزية) إدراك صدام للأهمية الهائلة المرتبطة بترس العلاقات العامة في ماكينة النظام الإعلامية، وحرصه في الوقت نفسه على نقل رسالة للعالم غير العربي مفادُها أنه سيد الموقف الآن، وأنه يتخذ هذه السيادة من تفويض شعبي هائل. وقد نقلت السفارة البريطانية في بغداد التقرير الانجليزي إلى لندن بدون تعليق، وأرفقته بمقتطفات من أهم خطابات صدام الأولى التي قصدت بها السفارة إلقاء الضوء على أمثلة لأسلوبه في الحكم.
يوم في حياة صدام
وبثت «وكالة الأنباء العراقية» (اينا) تقريرا في 19 يوليو قالت فيه إنه صار من باب الظاهرة المشتركة بالنسبة للذاهبين إلى العمل في ساعات الصباح الأولى أن يشاهدوا الرئيس صدام حسين وهو يقود سيارته إلى معسكر لعمل الشباب التطوعي مثلا، أو يصافحوه خلال توقفه لفسحة من «الأخذ والرد» مع المواطنين وهم يؤدون أعمالهم.
وكثيرا ما يتبادل الموظفون والعمال في ساعات الدوام الصباحية الباكرة الأحاديث عن مفاجأة الرئيس لهم بالزيارة وكيف «دردش» معهم، وكيف ابتسم لهم وسألهم عن أحوالهم واستمع إلى ردودهم.. وكلّها حكايات تفيض بالإعجاب والحب المتعاظم يوما بعد آخر في صدورهم.
ويوم 17 يوليو، عندما بدأ الرئيس لتوّه ممارسة مهامه العليا فعليا، كان هو اليوم نفسه الذي قاد فيه سيارته، بنفسه كعادته، ليزور ثكنات الحرس الجمهوري من أجل تقديمه فرحة المفاجأة لجنود المعسكر وضباطه. وقد تعالت صرخات هؤلاء «انتباه.. انتباه..»! لدى إدراكهم بأنه يقف وسطهم. وبعد قضائه ساعتين في زيارة الثكنات وتبادله أحاديث مشبعة بالاحترام والإعجاب لشخصه، غادر الرئيس المكان وسط الأيادي التي ارتفعت تلوح في وداعه ونظراتهم تتحدث عن حبهم العظيم لشخصه.
وفي مكتبه بمبنى المجلس الوطني (البرلمان)، بدأ الرئيس أعماله بمطالعة الصحف اليومية. ثم التقى برفقاء العمر من القادة وأعضاء مجلس قيادة الثورة، وتركزت المحادثات كلها على التفاعل الإيجابي بين الشعب وزعمائه. ومضى اللقاء يستعيد كيف اختلط الدمع بالابتسام والأب الكبير أحمد حسن البكر يودع الشعب بكل الحب قبل أن يبدأ فترة تقاعده. وكان كل من الحضور يشعر كأنه يحل بجسده في أعماق ذلك القلب العظيم، وبالفخر في الوقت نفسه تجاه تولي نائب رئيس مجلس قيادة الثورة رئاسة الجمهورية خلفا له.
أخلاقيات سياسية جديدة
وهذه الدفعة المعنوية هي التي حدت بكل عراقي لأن يرفع جبينه عاليا بالفخر وهو يتعلم من القيادة أنماطا جديدة من الأخلاقيات في إدارة السلطة، مثل إحلال القيادة محل الحكم. فالحاكم يمكن أن يكون ظالما، لكن القيادة تدير شؤون البلاد بالعدل وتقدم للجماهير مثالا يحتذى.
وبعد هذا اللقاء مع كبار القادة، غادر عدد من أعضاء المجلس المكان بغرض استقبال وزير الخارجية السوري عبدالحليم خدام الذي وصل إلى البلاد لينقل تهاني الرئيس حافظ الأسد إلى الرئيس صدام. وفي اجتماع الوزير الزائر لاحقا بالرئيس، اتفق الطرفان على أن الوحدة أهم من كل شيء آخر وناقشا كيفية صونها في المستقبل.
وبعد ختام لقاء المبعوث السوري، راجع الرئيس خطاباته اليومية وصحح بلغة بسيطة وحازمة في الآن نفسه الأخطاء بما فيها المطبعية الصغيرة. وبعد أن فرغ من هذه المهمة، غارد مكتبه بعد أن وجه طاقمه بتوزيع الرسائل على مختلف الجهات المعنية بها وبإحضار الردود عليها.
يعود الرئيس الآن إلى داره حيث الابتسامة العذبة التي ترتسم على شفتي ابنته الصغرى هلا، وحيث الاهتمامات السياسية اليافعة التي يبديها ابنه الأكبر عُدي.
خطاب من القلب إلى القلب
وفي منزله الريفي هذا، يعكف على مراجعة خطاب له من القلب إلى القلب سيوجهه أمسية اليوم نفسه، مضيفا إليه فقرات تظهر التقدير للفترة التي تولى فيها القائد الأب أحمد حسن البكر مقاليد الحكم. وهو الخطاب نفسه الذي استمعت إليه الجماهير في تلك الأمسية بقدر لا مُتناه من الإعجاب.
ولدى عودته إلى مكتبه يلتف حوله رفاقه في القيادة ويقررون الذهاب لزيارة الرئيس السابق الأب البكر وعناقه وتقبيله من القلب. وفي غضون ذلك في وسط بغداد، يلتئم مهرجان جماهيري صاخب الألوان يرفع ويردد شعارات التصميم على تقدم البلاد ونموها. وفي حوالي السابعة مساء، يصطحب الرئيس صدام نائبه عزت إبراهيم وبقية أعضاء مجلس القيادة الإقليمية فيعتلون المنصة لمخاطبة التجمع.
ويتقدم الرئيس إلى المايكروفون ليبدأ أوّل خطاب رئاسي له إلى الجماهير.. من القلب للقلب. وأصغى الجميع إليه وهو يلقي كلماته بصوت جمع الوضوح والهدوء والقوة ورباطة الجأش. وكانت الجماهير تقاطعه بين الفينة والأخرى بالتصفيق والهتاف اللذين تعاليا عندما أخبرها بأنه سيكون «سيفا بين السيوف وليس السيف الوحيد». وهكذا أثار الرئيس حماسة الشعب.
وبعد خطابه هذا بدأ الرئيس استعراض طابور طويل من ممثلي الهيئات الشعبية والمهنية مروا أمامه في حلل زاهية، وتبادل معها إلقاء التحايا العسكرية. واستمر هذا الاحتفال حتى الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي، فانتهى العرض في ختام يوم مذكور في حياة الرئيس صدام.
حتى العراقيون لا يفهمونه
وإن لم تعلق السفارة البريطانية على هذا التقرير من وكالة الأنباء العراقية، إلّا أنها تقارن، بدون إشارة، بين ذلك الخطاب كما ورد على لسان الوكالة، وأهم خطابات صدام في أوائل أيامه في كرسي الرئاسة. وتلاحظ السفارة، كما هو الحال في كتابتها هذا النوع من الرسائل، أن صدام ينحو في إلقاء خطاباته للشعارات الثورية والأحاديث المطولة التي تستعصي على الفهم «حتى لدى العراقيين أنفسهم». ففي 8 أغسطس (آب)، ألقى صدام خطابا من شرفة القصر الرئاسي مساء تنفيذ الأحكام بالإعدام (في حق المشاركين في المخطط لإطاحته). وقد بدأ بالقول إن الإعدام هو جزاء الخونة، وهو الكيفية التي تنتصر بها إرادة الشعب على الأعداء والخير على الشر والحق على الباطل. ومضى ليقول إن القيادة ظلت على علم بأن هناك شريحة ذات نوايا شريرة داخل حزب البعث. لكنها لم تكن لتصدق أن هؤلاء الرجال يمكن أن يبيعوا شرفهم وبلادهم بهذا الشكل لقوى الشر. وردّا على تقارير الإعلام الغربي التي تحدثت عن آلاف المعتقلين السياسيين في العراق، ظل صدام يردد القول: «55 خائنا... 13 مليون عراقي ثوري». وقال إن هذه المؤامرة لن تمنع النظام من أداء دوره الطبيعي، وهو الدفاع عن العراق وأيضا عن الأمة العربية بأجمعها.
وفي خطاب ألقاه في 11 أغسطس أمام تجمع القضاة الذي نقله التلفزيون مباشرة وأعاد بثه في اليوم التالي، استغرق صدام في الخطاب قرابة 3 ساعات كانت في معظمها بلغة غير مفهومة حتى على أهل البلاد. لكنه تحدث عن وجوب انتقال القضاء من مصدر للشقاء، بسبب التأخر في إصدار الأحكام، إلى العدالة السريعة بدون الرضوخ لأي ضغوط نفسية خارجية. ونخال أنه يقصد بتعبير «الضغوط النفسية الخارجية» خوف القضاة المميت من إصدار أحكام لا تتفق ومزاج النظام الحالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق