السعودية تُمسك العصا من الوسط
تنشر «أوان» اليوم من سلسلة وثائق الأرشيف البريطاني المتعلقة بالكويت والمنطقة المحيطة بها في العام 1979، وما عرفته آنذاك من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية، كان لها دور كبير في رسم معالم المنطقة في الوقت الراهن. وقد دُوّنت هذه الوثائق منذ 30 سنة، ما جعلها مُتاحة للتداول العام عملاً بقانون حرية المعلومات البريطاني، مطلع العام الحالي.
بعث السفير البريطاني في المملكة العربية السعودية جون ويلتون إلى لندن، بتقرير عن أهم النقاط في سياسة الرياض الخارجية. وكتب بتاريخ 28 مارس (اذار) 1979 أن السياسة الخارجية السعودية تقوم على ثلاثة مبادئ أساسية، وهي إيجاد حلّ للمشكلة الفلسطينية، ووقف المدّ الماركسي في المنطقة، والحفاظ على تقاليدها الإسلامية والعربية في عالم تسيطر عليه الأفكار والثقافة الغربية بشكل متنام. وقد ظلّت هذه المبادئ كما هي بلا تغيير على مرّ الأيام. لكن قدرا كبيرا من التفاؤل الذي غمر السعوديين في الفترة 1976 - 1977 تبدد الآن، وذلك بسبب معاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية، والثورة الإيرانية متوّجة بسقوط الشاه، ما خلق مناخا سياسيا جديدا أجبر المملكة على إعادة النظر في ذلك المسار التقليدي.
لا بديل عن الأميركيين
ويتبع السعوديون نهجين لتحقيق الأهداف على صعيد السياسة الخارجية. أوّلهما، الاستفادة القصوى من علاقات الصداقة الحميمة التي تجمعهم بالأميركيين، والثاني، توفر القدر الأعلى من الإجماع العربي. بيد أن شكوكا تحوم حول تواؤم هذين النهجين، خاصة وأن الأميركيين هم من أنجزوا معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، والتي يعتبرها السعوديون خطوة في الاتجاه الخطأ نحو التسوية الشاملة التي يسعون إليها. ومع ذلك فهم مدركون أنه لا بديل آخر أمامهم غير محاولتهم الجمع بين هذين النقيضين.
وعلى الرغم من رواج شائعات حول نيّة سعودية إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي، استبعد السفير البريطاني أيّ تحرك في هذا الاتجاه، فالاتحاد السوفياتي لا يملك ما يُقدمه للسعوديين من ناحية الماديات، والسعوديون أنفسهم ينفرون من نوع الفلسفة الآيدلوجية التي يمكن أن تطرحها موسكو على المائدة. كما أنهم يعلمون أن تقبلهم لفكرة الشيوعية سيجردهم من الحق في قيادة العالم الإسلامي، وأن أيّ تحرك من موقعهم الحالي بين الشرق والغرب لن يساعد على حلّ مشاكل سياستهم الخارجية.
ولن توقف السعودية محاولاتها نقل بعض بيضها من السلة الأميركية إلى سلال أوروبا الغربية واليابان وبعض الأنظمة المحافظة في العالم الثالث، لكنها تدرك أنه لا بديل حقيقيا أمامها سوى صداقتها مع الولايات المتحدة، إلّا إذا كانت على استعداد لتغيير أهدافها الأساسية. وهذه حقيقة تجلّت كضوء الشمس خلال الحرب الحدودية الأخيرة بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي. فقد كانت واشنطن هي الجهة الوحيدة صاحبة القدرة على تقديم نوع الدعم الذي يصبو إليه السعوديون.
السياسة والاقتصاد
ورغم أن السعوديين غير راضين تماما عمّا أنجزته واشنطن حتى الآن، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فهم يُقدرون حق التقدير جهود الرئيس جيمي كارتر ويقبلون حقيقة أن إدارته هي الوحيدة القادرة على إقناع إسرائيل بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية. ولهذا فهم يبذلون ما في وسعهم لدفع واشنطن قُدما في هذا الاتجاه.
وهناك أسباب أخرى لركون السعودية إلى الولايات المتحدة. فهذه الأخيرة هي الوحيدة القادرة على إمداد السعوديين بنوع السلع والخدمات اللازمة لتنمية بلادهم وتحقيق طموحاتهم المادية. كما أن أميركا تبقى الجهة الوحيدة القادرة على استيعاب تلك النسبة العالية من الاستثمارات السعودية الخارجية، وتوفر أعلى العائدات عليها على المدى البعيد. ورغم محاولات السعودية تنويع أماكن استثماراتها، فمازال أكثر من نصفها في الأراضي الأميركية.
كلّ هذا الارتباط بالولايات المتحدّة لا يعني البتة أن العلاقات السعودية-الأميركية طريق ذو اتجاه واحد. فهناك توازن دقيق يحكم اعتماد كل طرف على الآخر. وهذا صحيح، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي، رغم أن الأميركيين يعتقدون أن حاجة السعودية إليهم أكبر من حاجتهم هم إليها. وينعكس هذا الاعتقاد الأميركي بشكل خاص في أن واشنطن تعتبر وقوف الرياض إلى جانبها أمرا مفروغا منه بغض النظر عن ظروفه. ومن جهتهم فإن السعوديين ممتعضون إزاء هذه الحال، وخاصة عندما يضعهم الأميركيون في وضع يقول لسان حاله «هذا هو المتوفر لدينا. اقبلوه كما هو أو ارفضوه كما هو».
السادات أو «قذافي مصري»
وحاجة السعودية للولايات المتحدة ليست العامل الوحيد الذي يوقفها عن التوغل في رفض المعاهدة المصرية - الإسرائيلية جملة وتفصيلا. فهناك أيضا المصالح السعودية الكامنة في بقاء السادات نفسه وتصدّيها لمحاولات إطاحته وفتح الباب بالتالي أمام الأخطار المحدقة بالمنطقة. وثمة أسباب جيدة تحدو بالسعوديين لاعتباره أفضل رئيس مصري من وجهة نظرهم، فهو محافظ، وموال للغرب، وعزوف عن التدخل في شؤون الآخرين برغم ما قيل مؤخرا من سعي بلاده لأداء دور شرطي المنطقة. وهذا على عكس ما يختزنه العقل السعودي من أفعال جمال عبدالناصر، وأيضا خوفا من حلول «قذافي مصري» في حال ذهاب السادات.
هذا التوافق النسبي مع السادات، لا يمنع السعوديين من معارضة المعاهدة المصرية- الإسرائيلية. فهي، في نظرهم، لا تفي بشرط «المسألة الجوهرية» المتمثل في حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وفي استعادة القدس. ورغم التمجيد الأميركي للمعاهدة، فإن السعوديين يعتقدون أنها، بتحييدها مصر، ستشجع إسرائيل، بدلا من ردعها، على الامتناع عن تقديم نوع من التنازلات اللازمة لتحقيق أهداف هذه المعاهدة. أضف إلى هذا أن السعودية لا تريد عزل نفسها عن بقية العالم العربي، مثلما أنها لا تريد الزج بنفسها داخل معسكر أو آخر في كيان عربي منقسم على نفسه. بعبارة أخرى، فإن السعوديين لن يدعموا المعاهدة المصرية - الإسرائيلية حتى وإن اقتنعوا بجدواها، لكنهم لن يسعوا لعزل السادات رغم انصياعهم لنوع المقاطعة العربية الموصى بها من الجامعة العربية.
ريبة من إيران
التطور الآخر الكبير هو سقوط الشاه الذي بدّد الفشل الأميركي الذريع في إنقاذه كثيرا من الآمال السعودية بقدرة واشنطن على رفع مظلتها الأمنية حيث توجّب ذلك. وطهران نفسها شهدت بالطبع تغيّرا كاملا في التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية يقوم على دعمها بالجملة والتفصيل. ورغم أن السعوديين يرحبون بمنحى كهذا، فإن ما يقلقهم هو أن من مترتبات الوضع الإيراني الجديد هو إضعاف نفوذهم المالي لدى الفلسطينيين. كما أنهم سيتحاشون الآن كل ما من شأنه إغضاب منظمة التحرير، خاصة بالنظر إلى هشاشة حقولهم النفطية أمام محاولات التخريب المحتملة.
وفي ما خلا المسألة الفلسطينية وأحداث إيران، فإن الهاجس الأكبر التالي هو أمن شبه الجزيرة العربية. فقد دقت حرب اليمنين الشمالي والجنوبي نواقيس الخطر في الرياض ونبهتها إلى ضعف حدودها الجنوبية. وهي حاليا، في سعيها لوقف المدّ الماركسي والحفاظ على الوحدة العربية، تتأرجح بين مساعدة نظام اليمن الجنوبي ماليا لإقناع نظامه بعدم حاجته لموسكو، وإغضابه في الوقت نفسه بمساعدة نظام اليمن الشمالي وعُمان انطلاقا من توجهاتها الطبيعية من أجل وحدة الصف العربي. وفي هذا الإطار فقد حدا خوف السعودية من اليمن الجنوبي ومن العراق بها لتمتين علاقاتها مع دول الخليج خاصة في المجال الأمني المشترك. كما أنها تواصل في لبنان البحث عن تسوية لقطع الطريق على شقّ الصف العربي واحتلال إسرائيل مزيدا من الأراضي، وذلك رغم انسحابها من «قوات الردع العربية» في أوّل
فرصة متاحة.
ويخلص السفير البريطاني إلى أن السعودية تسعى دائما لإمساك العصا من الوسط. ويتضح هذا، على سبيل المثال، في سعيها لإرضاء واشنطن وفي الوقت نفسه محاولاتها للوصول إلى إجماع في منظمة «أوبيك» وفي جامعة الدول العربية. وإذا أدركت لندن هذه الحقيقة، صار بوسعها الاعتماد على صداقة ودعم السعوديين في العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية التي تمس مصالحها، وذلك دون أن تتوقع الكثير، فالسعودية لن تقف منفردة سواء في ما تعلق بفلسطين أو بالنفط، ولن تدافع عن المصالح الغربية عندما تتعارض مع
مصالحها الخاصة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق