نظام البعث يواجه السخط الشعبي بخدعة الانتخابات
يركز الملف «FCO 8/3402» المرسل من السفير البريطاني لدى بغداد، ايه جيه ستيرلينغ، إلى دائرة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية في لندن في هذا الجزء على الصراعات الداخلية في العراق. ويتناول في قسمه الأول، أسلوب تعامل النظام مع خصومه، خاصة الشيوعيين الذين يبذلون محاولات أخيرة لإنقاذ رقعتهم في تحالف الجبهة الوطنية التقدمية الذي يجمعهم مع الأكراد والمستقلين بحزب البعث الحاكم. ويتناول أيضا إعلان صدام حسين نيته إجراء انتخابات عامة في أول بادرة على شعوره بالقلق إزاء الضيق الشعبي بسبب عسر العيش وحملة الاعتقالات والإعدامات المستمرة في البلاد.
تململ في العراق
ويشير ستيرلينغ في 11 يناير (كانون الثاني) إلى ما أوردته صحيفة «طريق الشعب» الشيوعية من شكوى شبه مفتوحة إزاء القهر الذي يتعرض له أعضاء الحزب (وسط أنباء عن إعدام 18 قياديا شيوعيا)، وتشديدها على أن «التنمية تصبح أكثر فعالية عندما تعمل القوى الوطنية مجتمعة»، وأن «من شأن إضعاف الحزب الشيوعي إضعاف الكل بالتالي».
ويلاحظ السفير أن صحيفتي «برافدا» و«إزفستيا» الروسيتين نقلتا موضوع الصحيفة العراقية ولكن من دون أي تعليق. ويذهب إلى تفسير الأمر بأن موسكو تحاول إيجاد التوازن الصعب بين تعاطفها مع الشيوعيين العراقيين من جهة، وتسعى لإرضاء النظام من جهة أخرى.
ويمضي ستيرلينغ لينقل عن «برافدا» بيانا ختاميا لمؤتمر للأحزاب الشيوعية العربية (يعتقد أنه عقد في العاصمة البلغارية صوفيا) منقولا عن صحيفة سورية غير محددة. ويدين البيان القهر الذي يتعرض له الشيوعيون العراقيون، قائلا إن هذا هو الطريق الخطأ نحو اتحاد القوى الوطنية التقدمية في العالم العربي ككل، ومن ضمنها حزب البعث العراقي نفسه.
في مطلع فبراير (شباط) يرسل ستيرلينغ خطابا تحليليا مطولا عن الوضع العراقي الداخلي إلى لندن فيما يلي ملخص لأبرز نقاطه:
العصا والجزرة
يتحدث السفير عن حساسية نظام بغداد المفرطة تجاه كل ما يشتم فيه رائحة محاولات تخريبية، ما أدى إلى تزايد نشاط جهاز المخابرات العراقي على صعيد الاعتقالات. ويقول إنه يبدو أن الشيوعيين مستهدفون قبل غيرهم، ويتجلى هذا، مثلا، في صدور صحيفة «طريق الشعب» في أربع صفحات بدلاً من ثماني صفحات كالمعتاد.
ويشير إلى أن الشيوعيين ليسوا الوحيدين الذين يذوقون الأمرّين. فالنظام يبدو قلقا أيضا إزاء الضيق في صفوف الشعب، وإن كان خطره لا يصل إلى حد التخريب. ولهذا فإن كبار رموزه يسعون حاليا لمغازلته بشكل غير مسبوق. فصدام حسين والرئيس البكر قاما، مصحوبين بعدد كبير من أعضاء مجلس قيادة الثورة، بعدد من الزيارات خلال الشهرين الأخيرين يعادل عدد زياراتهما المماثلة طوال السنتين الماضيتين. وشملت هذه المصانع والدوائر الحكومية والمدارس وحتى رياض الأطفال، حيث رأينا صدام يحتضن الصغار ويقبلهم في مناظر تكاد تكون سوريالية. وفي زيارة إلى مصنع للنسيج في بغداد، تحدث صدام إلى العمال عن أن زيادة الإنتاج هي التي تتيح زيادة الأجور. وربما كانت هذه هي أول إشارة مبطنة إلى شعور النظام بالتململ الشعبي إزاء ضيق المعايش وربما إزاء حكمه هو نفسه. أما الإشارة الواضحة فقد أتت في خطابه إلى نقابات العمال حين رفع العصا المألوفة جنبا إلى جنب مع الجزرة النادرة متمثلة في الوعد بانتخابات عامة تتيح للبلاد بأكملها المشاركة في كعكة السلطة، إذ لا يتعين لفئة واحدة في المجتمع أن تثري على حساب البقية.
خدعة المصالحة
يؤكد السفير في تقريره أن النظام ظل يستمد أسباب بقائه من طريقة تعامله مع المعارضة. فحتى العام 1977، مثلا، كان واثقا من غياب الرادع عن ضربه الآخرين بيد من حديد وبأعصاب باردة. لكن هذا الوضع بدأ يتغير منذ منتصف العام الماضي حين بدا متوترا في انقضاضه على هذا وذاك. والآن فهو يخلط أسلوبه التقليدي من اعتقالات وإعدامات بالسعي الواضح إلى شيء من الرضاء الشعبي. لكن هذا نفسه يأتي بالقدر القديم نفسه من العنجهية. فآخر خطابات صدام -الى النقابات- تخللته بين الفينة والأخرى روح تصالحية غير مألوفة. لكنه تميز في الوقت نفسه بالأستاذية التي حدت به للقول إن الشعب «صار موثوقا به الآن ومؤهلا بالتالي لتحمل مسؤولياته بما يسمح بإجراء انتخابات». ولكن، من أجل تذكير الناس بأن الأسلوب القديم لم يتغير حقا، فقد تعمّد صدام ظهور سعدون شاكر، رئيس جهاز المخابرات العامة، إلى جواره وهو يلقي خطابه هذا.
ويلفت إلى أن صدام تحدث مطولا عن أن الانتخابات ستجرى فعلا وأنها ستفتح الباب إلى اختيار الشعب الحر من أراد من النواب في «المجلس الوطني» (سواء كان أو لم يكن الناخب عضوا بالبعث، رغم أن صدام لم يحدد موعدا لها ولأن على مجلس قيادة الثورة النظر في التقرير الخاص بها بعد ذلك).
ويمضي السفير محللا الوضع بالقول: «وجهة نظرنا الخاصة هي أن الانتخابات الحرة ستبقى حلما على غرار حلم الوحدة العراقية - السورية قبل 6 أشهر. وبينما لا نشك في إمكان إجرائها، فمن المرجح أن تقتصر على نقابات العمال وما يسمى «المنظمات الشعبية»، على أن تكون تحت سيطرة النظام التامة. وهذا اتجاه يعززه أن تعليقات الصحف، حتى في تداولها للخبر على مستوى افتتاحياتها، كانت شحيحة. أضف الى هذا أن الخبر نفسه تخلى عن دائرة الضوء الرئيسية لميثاق العمل الوطني العراقي - السوري وللذكرى السنوية لأعمال الشغب التي اندلعت ردا على اتفاقية بورتسموث.
ويخلص السفير إلى أن الانتخابات المرتقبة تضفي شيئا من الغرابة على الأوضاع في العراق. فقد ظل النظام حتى وقت قريب يقول إن حزب البعث نفسه هو الكيان الديمقراطي الذي يتيح للجماهير إيصال رغباتها إلى القيادة. والآن فإن الحديث عن انتخابات حرة يناقض هذا الزعم على نحو ما ويؤكد أنه استلزم قدرا من الألم في صدور قادة الحزب، وقدرا مماثلا من الخوف في صدور أنصاره المنتفعين بوجوده، اللهم إلا إذا كانت تطمينات معينة قد طرحت من وراء الستار لهؤلاء إزاء أن الانتخابات ستجرى بشكل لا يهدد مواقعهم بأي شكل.
السخط الشعبي هو السبب
ويضيف أن ثمة حديثاً، في بعض الأوساط، مفاده أن المقصد الرئيسي وراء هذه الانتخابات هو التخلص مرة والى الأبد من العناصر الشيوعية داخل الإدارة، وإسدال الستار أيضا على تحالف الجبهة الوطنية التقدمية، وأتباع كل ما من شأنه إعداد البلاد لتناغم كامل مع السياسة السورية. لكنني شخصيا أشك في كل هذا. فليس ثمة ما يردع النظام عن القضاء على قادة الحزب الشيوعي ومختلف رموزه، ولا حاجة له بالمغامرة بتزوير الانتخابات فقط ليتخلص من وزيرين شيوعيين في صفوفه. والجبهة الوطنية التقدمية عديمة التأثير ولا حياة حقيقية لها إلا عندما يقرر البعث استغلالها لمآربه الخاصة. أما في ما تعلق بتنسيق التركيبة السياسية العراقية بحيث تتوافق مع نظيرتها السورية، فبالمقدور الانتظار على الأقل إلى حين عقد المفاوضات الدستورية. وإذا كان للمرء أن يصدق ما أورده صدام حسين نفسه، فقد أمر النظام بإعداد التقرير المتعلق بالانتخابات قبل ثمانية أشهر كاملة، أي قبل مجرد التوصل إلى مصالحة مع النظام في دمشق.
ويخلص السفير في تقريره إلى أن التفسير الأرجح لإعلان صدام هو أن الحكومة تقف بمواجهة سخط شعبي ذي طبيعة يعتقد النظام أن أفضل مخرج منه هو المغامرة المحسوبة والمتمثلة في إجراء انتخابات عامة. وحتى وقت قريب كان رأيي هو أن النظام لا يأبه برأي الشارع مثقال ذرة، بحيث أنه لا يجد نفسه مجبرا على فعل شيء لتغييره. لكن الواضح الآن هو أن هذه النظرة تغيّرت بالرغم من أن صدام والبكر مازالا يحكمان قبضتيهما على زمام الأمور. ولذا جاء إعلان صدام ليضمن استقرار النظام في وجه تضخم التململ الشعبي على المدى الطويل. وهذا في حد ذاته تنازل غير مسبوق ويشي بالهشاشة الجديدة التي اعترت صفوف البعث للمرة الأولى منذ توليه مقاليد السلطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق