لندن - عمار الجندي
نزعت بريطانيا عشية بداية العام الحالي غطاء السرية عن آلاف الوثائق الرسمية التي يعود تاريخها الى 1977، وذلك عملاً بالقانون الذي ينص على وضع المذكرات والرسائل والبرقيات. الحكومية قيد التداول العام مع انقضاء 30 عاماً على تاريخها الاصلي. وبين الملفات التي أخرجت اخيراً من خزائن المؤسسات الحكومية بمختلف انواعها واختصاصاتها، 78 ملفاً تضم وثائق ذات صلة مباشرة بالكويت.
«أوان» زارت مقر الارشيف الوطني البريطاني في ضاحية لندن القريبة من «حدائق كيو» الشهيرة كي تنفض الغبار عن الوثائق ذات الصلة وتسلط الضوء على فحواها وخلفيتها في حلقات، هنا سادستها.
تجارة الاسلحة مع دول الشرق الاوسط حيث تأججت النزاعات والحروب على وقع اصوات انبجاس النفط من الابار المنتشرة هنا وهناك، قصة لها شجون حقيقية. تتشابك في حكاية بيع السلاح للمنطقة الساخنة بامتياز، خيوط السياسة الداخلية والخارجية بالبزنس فتزيدها تعقيداً وتؤلب الحليف القوي على حليفه وصديقه الصدوق. لذلك فإن أي عبث بالموازين على ساحة هذه التجارة المزدحمة بالباعة من شأنه ان يتمخض عن نتائج مثيرة.
قرار الكويت استيراد بعض الاسلحة من الاتحاد السوفييتي في عز الحرب الباردة العام 1977 الذي ساهم الشيخ صباح الاحمد الصباح في اتخاذه بوصفه وزيرا للخارجية حينذاك وقاد جهود الدفاع عنه في وجه الاحتجاجات الاميركية والبريطانية، كان بمثابة «ضربة المعلم» التي اصابت مجموعة من الاهداف وكشفت عن حقائق شتى.
فهو اثبت ان دولة صغيرة تستطيع التمسك بنجاح باستقلالية قرارتها واجبار الدولة العظمى على الاستجابة لرغباتها إذا كانت صاحبة حق واستطاعت ان تدافع عنه بصلابة وحنكة دبلوماسية.
كما ساهم في الكشف عن مدى صدق العلاقة بين «أولاد العم» البريطانيين والاميركيين على ارض الواقع، التي يجهد الطرفان عادة الى اخفائها عن بعضهم البعض وعن الاخرين. فالصداقة لاتصمد دائماً عند اخضاعها الى اختبار الربح المادي.
الكويت الطرف الوحيد الرابح في صفقة االاسلحة السوفيتية
بطبيعة الحال الوثائق الرسمية البريطانية «الجديدة» لاتساعدنا على تتبع الاثار كلها ومواقف الاطراف كلها بمن في ذلك السوفييت، لكن ما بين ايدينا يكفي للحكم بان الكويت كانت الطرف الوحيد الذي خرج رابحاً من حكاية الصفقة السوفييتية. فهي اتخذت قراراً رفضت بصرامة التراجع عنه تحت اي ضغوط خارجية، لابل سخر الشيخ صباح الاحمد الصباح من رد الفعل الغربي، معتبراً ان الامر برمته ابسط بكثير من أن يقلق مضجع الاميركيين والبريطانيين. واجبر هذا الموقف الاخرين على مراجعة حساباتهم والبدء بالاستجابة الى طلبات الكويت من انواع الاسلحة التي كانوا قد حجبوها عنها.
ولان جاءت الكويت في الموقع الافضل، فإن الاميركيين كانوا الاقل حظاً. إذ سخر منهم الجميع بمن في ذلك حلفاؤهم البريطانيون وبدوا «بسطاء» انفعاليين ضيّعوا على انفسهم فرصاً عدة لتدارك الامور والتعويض عن الاخطاء التي ارتكبوها.
ومن جهتهم، لم ينفد البريطانيون بجلدهم سالمين تماماً، إذ تكرس قصة الخلاف صفاتهم التقليدية المألوفة، او النمطية، كاشخاص متعالين يتسمون بالبرودة والدهاء ويعتقدون انهم دائماً الاكثر مهارة وذكاء من «ابناء عمومتهم» الاميركيين «البسطاء».
والسخرية الممزوجة باستغراب حقيقي جاءت بادئ الامر من وزير الخارجية الكويتي قبل ثلاثين عاماً، الشيخ صباح الاحمد الصباح. فحين سارع اليه السفير الاميركي فرانك مايسترون في 13 ابريل (نيسان) راجياً اياه التدخل، ردّ الشيخ صباح بالاعراب عن دهشته لموقف الاميركيين والتأكيد على ان الحكومة لن تعود عن قرارها باستيراد اسلحة سوفييتية.
وبين المذكرات التي خرجت الى النور حديثاً اثنتان توثقان الجهود التي بذلها كل من السفير الاميركي ونظيره البريطاني آرتشي لامب، كل على حدة، لدى الشيخ صباح والشيخ سعد العبد الله وزير الدفاع في تلك الايام.
والوثيقتان لا تختلفان كثيراً حول التفاصيل الاساسية، وان كانت كل منهما تضم عناصر غير موجودة في الاخرى. تحمل الاولى توقيع السفير لامب نفسه فيما اعد الدبلوماسي البريطاني ستيفن داي الوثيقة الثانية في لندن بناء على معلومات نقلها اليه زميل في السفارة الاميركية في العاصمة البريطانية.
الشيخ صباح يعبر عن استياءه باللغة العربية لممثل مملكة بريطانيا
ويلفت لامب في رسالة بعنوان «اسلحة سوفييتية للكويت» مؤرخة في 27 ابريل (نيسان) الى «استثناء» مهم شهده لقاء الشيخ صباح بالسفير الاميركي، وهو ان «المقابلة» الصريحة «تمت بشكل استثنائي، من جانب وزير الخارجية باللغة العربية عبر مترجم» نقل كلماته الى الانكليزية.
ولانه لم يعلق ممثل جلالة الملكة اليزابيث في الكويت حينذاك على سبب هذا الخروج المهم على المألوف، فإن الامر لم يكن بحاجة الى تعليق! والارجح ان الشيخ صباح رغب في التعبير عن استيائه بطريقة لبقة.. وهكذا اراد ان «يلقن» السفير مايسترون درساً في فن الاحتجاجات الدبلوماسية التي لم يكن يتقنها لا سيما انه كان متسرعاً قليل الكفاءة، كما يأخذ عليه نظيره البريطاني. يُشار الى ان مايسترون الذي توفي في مايو الماضي عن 85 عاماً كان سفير بلاده في الكويت بين 1976 و1979.
ويقول لامب إن زميله الاميركي الذي طلب مقابلة الشيخ صباح الأحمد بناء على تعليمات اتته من واشنطن، اطلعه في 18 ابريل على تقرير اعده لوزارته عن اتصالاته مع الوزير بشأن ما سماه «التأثير المزعزع للاستقرار الذي جيء به الى المنطقة عن طريق شراء الكويت اسلحة سوفييتية».
ويشير السفير البريطاني الى ان الشيخ صباح «عبر عن استغرابه لان الحكومة الاميركية تحدث كل هذه الجلبة التي لا مبرر لها حول طلبية سلاح صغيرة للغاية، لن تتكرر، كما لن تؤدي الى احضار خبراء تقنيين سوفييت الى الكويت». ونقل لامب عنه قوله إن «الكويت تحتاج للسلاح بقصد الدفاع عن النفس ولن تستخدم هذه الاسلحة للهجوم، كما لن تعطيها الى اي جهة اخرى».
وتجلت السخرية المرّة في قول الشيخ صباح إن سلاح «ستريلا يمكن شراؤه من شوارع بيروت»، حسبما ذكر لامب. ومع ذلك ، اقامت واشنطن الدنيا لان الكويت تسعى الى شراء هذا السلاح نفسه من مصدره الاصلي، وهو الاتحاد السوفييتي.
وتابع السفير البريطاني سرده لموقف وزير الخارجية الكويتي آنذاك، فقال إن الشيخ صباح ألقى باللوم على سفير واشنطن لانه أثار استياء الشيخ سعد العبد الله وزير الدفاع حين قابله في اليوم السابق بقصد اقناعه بالعودة عن الصفقة السوفييتية. ونسب لامب الى الشيخ صباح تشديده على ان «الحكومة الكويتية تعتزم الاستمرار في اعتمادها على حكومة الولايات المتحدة كمصدّر رئيسي للسلاح لها»، واعرابه عن امله بان عاصفة الصخب المبالغ فيها حول الاسلحة الروسية «لن تؤثر على استعداد الولايات المتحدة لتوفير ما تحتاجه الكويت من الاسلحة الاميركية».
والحق ان لامب كان يدرك جيداً بعض اسباب سخرية الشيخ صباح وتبرمه بقصة الاسلحة السوفييتية التي حظيت باهتمام لا تستحقه. فالسفير البريطاني قد سمع من الشيخ سعد العبد الله وزير الدفاع مباشرة في 22 مارس (آذار) – أي قبل حوالي شهر من كتابة تقريره هذا – الحقائق المتعلقة بالصفقة والتي كانت مختلفة للغاية عن الانباء المضخمة التي روج لها البعض.
وقد سجل هنري هوغر، وكان سكرتيراً ثانياً في السفارة البريطانية بالكويت قبل ثلاثين عاماً، المعلومات التي عاد بها السفير من مقابلته مع الشيخ سعد في رسالة بعنوان «اسلحة سوفييتية للكويت» وجهها الى الخارجية بلندن في 26 مارس، وجاء فيها ان قيمة الصفقة التي اكد الشيخ سعد للسفير انه قد وقعها «كانت 50 مليون دولار، اي اقل بكثير من رقم الـ300 مليون دولار الذي أوردته التكهنات سابقاً». والتباين لايقف عند هذا الحد، بل إن الكويت لم تشتر بعض انواع الاسلحة مثل «شيلكا» التي ذكرت انباء فيما مضى ان الشحنة تشتمل عليه.
هذا التخبط والتناقض في المعلومات التي راجت عن الصفقة، تبرر سخرية الشيخ صباح واستغرابه للقلق الاميركي المبالغ فيه.
الشيخ صباح يعطي السفير الاميركي «اجابة متذمرة»
أما الوثيقة الاخرى، فقد كانت مستقاة من مصادر عدة بينها «برقيتان من الكويت (السفارة الاميركية) الى وزارة الخارجية تنقلان المداخلتين اللتين قدمهما السفير الى وزيري الدفاع والخارجية الكويتيين في 12 و13 ابريل». واستهل الموظف في الخارجية البريطاني داي تقريره هذا المؤرخ في 20 ابريل، بالاشارة الى انه حصل على المعلومات المدرجة فيه من دبلوماسي اميركي اسمه كنزولوفنغ، تردد كما يبدو في تلك الفترة على مبنى وزارة الخارجية، والتقى عدداً من موظفيها بينهم ايفور لوكاس الذي كان ارفع مرتبة من داي لاسيما انه اشرف وقتذاك على ادارة الشرق الاوسط.
وهذه الوثيقة تتفق مع سابقتها الى حد كبير في وصف الطريقة التي رد بها الشيخ صباح على السفير الاميركي. وإذ أوضحت ان مايسترون سارع الى طلب مقابلتين عاجلتين مع الشيخ صباح والشيخ سعد تنفيذا لطلب رؤسائه منه حثّ الحكومة الكويتية على «اعادة النظر بالمسألة بغرض الغائها»، فهي لفتت الى ان الرجل «تلقى اجابة متذمرة في المقابلتين».
السعودية لم تعلق على الصفقة احتراماً لسيادة الكويت
وتنسب الوثيقة الى الشيخ صباح قوله إن «القلق الاميركي مبالغ فيه». واضافت موضحة انه لفت الى ان عدد الاسلحة الذي قررت بلاده ان تستورده من الاتحاد السوفييتي «صغير» ولن تستعين الكويت بالخبراء السوفييت لتشغيله واستثماره لان «التدريب سيتم من قبل خبراء عرب، على الارجح انهم سيكونون مصريين».
وثمة عنصر آخر جديد لم يُشر اليه السفير البريطاني في رسالته المذكورة آنفاً، إذ يقول إن الشيخ صباح اوضح للسفير الاميركي ان الكويت قد أبلغت جيرانها، حسب الاصول المعمول بها، بانها قد ابرمت صفقة اسلحة مع السوفييت. وذكر انه أبلغ مايسترون بأن السعودية لم تعلق على الصفقة. وهذا بالطبع يدل على احترام المملكة لقرارت الشقيقة الكويت.
وكان الدبلوماسي داي تعرض الى دور دول الجوار، وذلك في تقرير سابق اعده عن صفقة السلاح السوفييتي نفسها بمعونة كنزولوفنغ ايضاً. وقال داي في المذكرة المؤرخة في 6 ابريل إنه اطلع بفضل الدبلوماسي الاميركي على برقية ارسلها السفير مايسترون الى واشنطن لموافاتها بمعلومات عن الصفقة الكويتية واقتراح القيام بـ « توجه اميركي-بريطاني منسق» للاتصال بالكويتيين ودعوتهم لاعادة النظر بأمر الصفقة من جديد. كما طرح بشكل عابر «احتمال التماس المساعدة من السعوديين لوحدهم او مع الايرانيين» وذلك للتأثير على الحكومة الكويتية.
إلا ان وزارة الخارجية الاميركية لم توافق على معظم اقتراحات سفيرها، حسبما افاد الدبلوماسي البريطاني داي. وقال هذا في التقرير نفسه ان زميله الاميركي نقل اليه عن الوزارة ردها في 2 ابريل على السفير قائلة إن « الايرانيين لن يكونوا على الارجح مفيدين» و أن جهداً اميركياً- بريطانياً مشتركاً « قد يؤدي الى نتائح معاكسة». ولم تستبعد الخارجية الاميركية حسب التقرير البريطاني ان تكون السعودية قد فكرت بالامر سلفاً وقررت عدم التدخل او تقديم نصيحة سرية احتراماً للموقف الكويتي.
نزعت بريطانيا عشية بداية العام الحالي غطاء السرية عن آلاف الوثائق الرسمية التي يعود تاريخها الى 1977، وذلك عملاً بالقانون الذي ينص على وضع المذكرات والرسائل والبرقيات. الحكومية قيد التداول العام مع انقضاء 30 عاماً على تاريخها الاصلي. وبين الملفات التي أخرجت اخيراً من خزائن المؤسسات الحكومية بمختلف انواعها واختصاصاتها، 78 ملفاً تضم وثائق ذات صلة مباشرة بالكويت.
«أوان» زارت مقر الارشيف الوطني البريطاني في ضاحية لندن القريبة من «حدائق كيو» الشهيرة كي تنفض الغبار عن الوثائق ذات الصلة وتسلط الضوء على فحواها وخلفيتها في حلقات، هنا سادستها.
تجارة الاسلحة مع دول الشرق الاوسط حيث تأججت النزاعات والحروب على وقع اصوات انبجاس النفط من الابار المنتشرة هنا وهناك، قصة لها شجون حقيقية. تتشابك في حكاية بيع السلاح للمنطقة الساخنة بامتياز، خيوط السياسة الداخلية والخارجية بالبزنس فتزيدها تعقيداً وتؤلب الحليف القوي على حليفه وصديقه الصدوق. لذلك فإن أي عبث بالموازين على ساحة هذه التجارة المزدحمة بالباعة من شأنه ان يتمخض عن نتائج مثيرة.
قرار الكويت استيراد بعض الاسلحة من الاتحاد السوفييتي في عز الحرب الباردة العام 1977 الذي ساهم الشيخ صباح الاحمد الصباح في اتخاذه بوصفه وزيرا للخارجية حينذاك وقاد جهود الدفاع عنه في وجه الاحتجاجات الاميركية والبريطانية، كان بمثابة «ضربة المعلم» التي اصابت مجموعة من الاهداف وكشفت عن حقائق شتى.
فهو اثبت ان دولة صغيرة تستطيع التمسك بنجاح باستقلالية قرارتها واجبار الدولة العظمى على الاستجابة لرغباتها إذا كانت صاحبة حق واستطاعت ان تدافع عنه بصلابة وحنكة دبلوماسية.
كما ساهم في الكشف عن مدى صدق العلاقة بين «أولاد العم» البريطانيين والاميركيين على ارض الواقع، التي يجهد الطرفان عادة الى اخفائها عن بعضهم البعض وعن الاخرين. فالصداقة لاتصمد دائماً عند اخضاعها الى اختبار الربح المادي.
الكويت الطرف الوحيد الرابح في صفقة االاسلحة السوفيتية
بطبيعة الحال الوثائق الرسمية البريطانية «الجديدة» لاتساعدنا على تتبع الاثار كلها ومواقف الاطراف كلها بمن في ذلك السوفييت، لكن ما بين ايدينا يكفي للحكم بان الكويت كانت الطرف الوحيد الذي خرج رابحاً من حكاية الصفقة السوفييتية. فهي اتخذت قراراً رفضت بصرامة التراجع عنه تحت اي ضغوط خارجية، لابل سخر الشيخ صباح الاحمد الصباح من رد الفعل الغربي، معتبراً ان الامر برمته ابسط بكثير من أن يقلق مضجع الاميركيين والبريطانيين. واجبر هذا الموقف الاخرين على مراجعة حساباتهم والبدء بالاستجابة الى طلبات الكويت من انواع الاسلحة التي كانوا قد حجبوها عنها.
ولان جاءت الكويت في الموقع الافضل، فإن الاميركيين كانوا الاقل حظاً. إذ سخر منهم الجميع بمن في ذلك حلفاؤهم البريطانيون وبدوا «بسطاء» انفعاليين ضيّعوا على انفسهم فرصاً عدة لتدارك الامور والتعويض عن الاخطاء التي ارتكبوها.
ومن جهتهم، لم ينفد البريطانيون بجلدهم سالمين تماماً، إذ تكرس قصة الخلاف صفاتهم التقليدية المألوفة، او النمطية، كاشخاص متعالين يتسمون بالبرودة والدهاء ويعتقدون انهم دائماً الاكثر مهارة وذكاء من «ابناء عمومتهم» الاميركيين «البسطاء».
والسخرية الممزوجة باستغراب حقيقي جاءت بادئ الامر من وزير الخارجية الكويتي قبل ثلاثين عاماً، الشيخ صباح الاحمد الصباح. فحين سارع اليه السفير الاميركي فرانك مايسترون في 13 ابريل (نيسان) راجياً اياه التدخل، ردّ الشيخ صباح بالاعراب عن دهشته لموقف الاميركيين والتأكيد على ان الحكومة لن تعود عن قرارها باستيراد اسلحة سوفييتية.
وبين المذكرات التي خرجت الى النور حديثاً اثنتان توثقان الجهود التي بذلها كل من السفير الاميركي ونظيره البريطاني آرتشي لامب، كل على حدة، لدى الشيخ صباح والشيخ سعد العبد الله وزير الدفاع في تلك الايام.
والوثيقتان لا تختلفان كثيراً حول التفاصيل الاساسية، وان كانت كل منهما تضم عناصر غير موجودة في الاخرى. تحمل الاولى توقيع السفير لامب نفسه فيما اعد الدبلوماسي البريطاني ستيفن داي الوثيقة الثانية في لندن بناء على معلومات نقلها اليه زميل في السفارة الاميركية في العاصمة البريطانية.
الشيخ صباح يعبر عن استياءه باللغة العربية لممثل مملكة بريطانيا
ويلفت لامب في رسالة بعنوان «اسلحة سوفييتية للكويت» مؤرخة في 27 ابريل (نيسان) الى «استثناء» مهم شهده لقاء الشيخ صباح بالسفير الاميركي، وهو ان «المقابلة» الصريحة «تمت بشكل استثنائي، من جانب وزير الخارجية باللغة العربية عبر مترجم» نقل كلماته الى الانكليزية.
ولانه لم يعلق ممثل جلالة الملكة اليزابيث في الكويت حينذاك على سبب هذا الخروج المهم على المألوف، فإن الامر لم يكن بحاجة الى تعليق! والارجح ان الشيخ صباح رغب في التعبير عن استيائه بطريقة لبقة.. وهكذا اراد ان «يلقن» السفير مايسترون درساً في فن الاحتجاجات الدبلوماسية التي لم يكن يتقنها لا سيما انه كان متسرعاً قليل الكفاءة، كما يأخذ عليه نظيره البريطاني. يُشار الى ان مايسترون الذي توفي في مايو الماضي عن 85 عاماً كان سفير بلاده في الكويت بين 1976 و1979.
ويقول لامب إن زميله الاميركي الذي طلب مقابلة الشيخ صباح الأحمد بناء على تعليمات اتته من واشنطن، اطلعه في 18 ابريل على تقرير اعده لوزارته عن اتصالاته مع الوزير بشأن ما سماه «التأثير المزعزع للاستقرار الذي جيء به الى المنطقة عن طريق شراء الكويت اسلحة سوفييتية».
ويشير السفير البريطاني الى ان الشيخ صباح «عبر عن استغرابه لان الحكومة الاميركية تحدث كل هذه الجلبة التي لا مبرر لها حول طلبية سلاح صغيرة للغاية، لن تتكرر، كما لن تؤدي الى احضار خبراء تقنيين سوفييت الى الكويت». ونقل لامب عنه قوله إن «الكويت تحتاج للسلاح بقصد الدفاع عن النفس ولن تستخدم هذه الاسلحة للهجوم، كما لن تعطيها الى اي جهة اخرى».
وتجلت السخرية المرّة في قول الشيخ صباح إن سلاح «ستريلا يمكن شراؤه من شوارع بيروت»، حسبما ذكر لامب. ومع ذلك ، اقامت واشنطن الدنيا لان الكويت تسعى الى شراء هذا السلاح نفسه من مصدره الاصلي، وهو الاتحاد السوفييتي.
وتابع السفير البريطاني سرده لموقف وزير الخارجية الكويتي آنذاك، فقال إن الشيخ صباح ألقى باللوم على سفير واشنطن لانه أثار استياء الشيخ سعد العبد الله وزير الدفاع حين قابله في اليوم السابق بقصد اقناعه بالعودة عن الصفقة السوفييتية. ونسب لامب الى الشيخ صباح تشديده على ان «الحكومة الكويتية تعتزم الاستمرار في اعتمادها على حكومة الولايات المتحدة كمصدّر رئيسي للسلاح لها»، واعرابه عن امله بان عاصفة الصخب المبالغ فيها حول الاسلحة الروسية «لن تؤثر على استعداد الولايات المتحدة لتوفير ما تحتاجه الكويت من الاسلحة الاميركية».
والحق ان لامب كان يدرك جيداً بعض اسباب سخرية الشيخ صباح وتبرمه بقصة الاسلحة السوفييتية التي حظيت باهتمام لا تستحقه. فالسفير البريطاني قد سمع من الشيخ سعد العبد الله وزير الدفاع مباشرة في 22 مارس (آذار) – أي قبل حوالي شهر من كتابة تقريره هذا – الحقائق المتعلقة بالصفقة والتي كانت مختلفة للغاية عن الانباء المضخمة التي روج لها البعض.
وقد سجل هنري هوغر، وكان سكرتيراً ثانياً في السفارة البريطانية بالكويت قبل ثلاثين عاماً، المعلومات التي عاد بها السفير من مقابلته مع الشيخ سعد في رسالة بعنوان «اسلحة سوفييتية للكويت» وجهها الى الخارجية بلندن في 26 مارس، وجاء فيها ان قيمة الصفقة التي اكد الشيخ سعد للسفير انه قد وقعها «كانت 50 مليون دولار، اي اقل بكثير من رقم الـ300 مليون دولار الذي أوردته التكهنات سابقاً». والتباين لايقف عند هذا الحد، بل إن الكويت لم تشتر بعض انواع الاسلحة مثل «شيلكا» التي ذكرت انباء فيما مضى ان الشحنة تشتمل عليه.
هذا التخبط والتناقض في المعلومات التي راجت عن الصفقة، تبرر سخرية الشيخ صباح واستغرابه للقلق الاميركي المبالغ فيه.
الشيخ صباح يعطي السفير الاميركي «اجابة متذمرة»
أما الوثيقة الاخرى، فقد كانت مستقاة من مصادر عدة بينها «برقيتان من الكويت (السفارة الاميركية) الى وزارة الخارجية تنقلان المداخلتين اللتين قدمهما السفير الى وزيري الدفاع والخارجية الكويتيين في 12 و13 ابريل». واستهل الموظف في الخارجية البريطاني داي تقريره هذا المؤرخ في 20 ابريل، بالاشارة الى انه حصل على المعلومات المدرجة فيه من دبلوماسي اميركي اسمه كنزولوفنغ، تردد كما يبدو في تلك الفترة على مبنى وزارة الخارجية، والتقى عدداً من موظفيها بينهم ايفور لوكاس الذي كان ارفع مرتبة من داي لاسيما انه اشرف وقتذاك على ادارة الشرق الاوسط.
وهذه الوثيقة تتفق مع سابقتها الى حد كبير في وصف الطريقة التي رد بها الشيخ صباح على السفير الاميركي. وإذ أوضحت ان مايسترون سارع الى طلب مقابلتين عاجلتين مع الشيخ صباح والشيخ سعد تنفيذا لطلب رؤسائه منه حثّ الحكومة الكويتية على «اعادة النظر بالمسألة بغرض الغائها»، فهي لفتت الى ان الرجل «تلقى اجابة متذمرة في المقابلتين».
السعودية لم تعلق على الصفقة احتراماً لسيادة الكويت
وتنسب الوثيقة الى الشيخ صباح قوله إن «القلق الاميركي مبالغ فيه». واضافت موضحة انه لفت الى ان عدد الاسلحة الذي قررت بلاده ان تستورده من الاتحاد السوفييتي «صغير» ولن تستعين الكويت بالخبراء السوفييت لتشغيله واستثماره لان «التدريب سيتم من قبل خبراء عرب، على الارجح انهم سيكونون مصريين».
وثمة عنصر آخر جديد لم يُشر اليه السفير البريطاني في رسالته المذكورة آنفاً، إذ يقول إن الشيخ صباح اوضح للسفير الاميركي ان الكويت قد أبلغت جيرانها، حسب الاصول المعمول بها، بانها قد ابرمت صفقة اسلحة مع السوفييت. وذكر انه أبلغ مايسترون بأن السعودية لم تعلق على الصفقة. وهذا بالطبع يدل على احترام المملكة لقرارت الشقيقة الكويت.
وكان الدبلوماسي داي تعرض الى دور دول الجوار، وذلك في تقرير سابق اعده عن صفقة السلاح السوفييتي نفسها بمعونة كنزولوفنغ ايضاً. وقال داي في المذكرة المؤرخة في 6 ابريل إنه اطلع بفضل الدبلوماسي الاميركي على برقية ارسلها السفير مايسترون الى واشنطن لموافاتها بمعلومات عن الصفقة الكويتية واقتراح القيام بـ « توجه اميركي-بريطاني منسق» للاتصال بالكويتيين ودعوتهم لاعادة النظر بأمر الصفقة من جديد. كما طرح بشكل عابر «احتمال التماس المساعدة من السعوديين لوحدهم او مع الايرانيين» وذلك للتأثير على الحكومة الكويتية.
إلا ان وزارة الخارجية الاميركية لم توافق على معظم اقتراحات سفيرها، حسبما افاد الدبلوماسي البريطاني داي. وقال هذا في التقرير نفسه ان زميله الاميركي نقل اليه عن الوزارة ردها في 2 ابريل على السفير قائلة إن « الايرانيين لن يكونوا على الارجح مفيدين» و أن جهداً اميركياً- بريطانياً مشتركاً « قد يؤدي الى نتائح معاكسة». ولم تستبعد الخارجية الاميركية حسب التقرير البريطاني ان تكون السعودية قد فكرت بالامر سلفاً وقررت عدم التدخل او تقديم نصيحة سرية احتراماً للموقف الكويتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق