ثورة الخميني في إيران تُزعزع بعث العراق
لندن- صلاح أحمد
تواصل «أوان» نشر وثائق الأرشيف البريطاني المتعلقة بالكويت والمنطقة المحيطة بها في العام 1979، وما عرفته آنذاك من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كان لها دور كبير في رسم معالم المنطقة في الوقت الراهن. وقد دُوّنت هذه الوثائق منذ 30 سنة، ما جعلها مُتاحة للتداول العام عملا بقانون حرية المعلومات البريطاني، مطلع العام الجاري.
في 12 أبريل (نيسان) 1979 بعث السفير البريطاني لدى بغداد، ايه جيه ستيرلينغ، بتقرير إلى لندن يتناول أوضاع الشيعة في العراق في أعقاب الثورة الإسلامية الإيرانية. فبعد 15 سنة قضاها آية الله الخميني في منفاه، وأمضى سوادها الأعظم في العراق (النجف) قبل عودته إلى إيران على رأس نظامها الجديد، كان من الطبيعي ترقب ردّة الفعل في العراق، حيث ساد الاعتقاد بأن برميل البارود المتمثل في الكراهية العميقة والطويلة المدى من جانب الشيعة تجاه إحكام الأقلية السنية قبضتها على مقاليد السلطة، سينفجر بعد النصر الذي كتب للثورة الإيرانية.
مخاوف واهية من الشيعة
وما جعل هذا الاحتمال ممكنا هو التقارب الحميم بين شيعة البلدين عبر القادة الدينيين في كربلاء والنجف. وبدا متوقعا أيضا أن يثير الخميني المشاعر الشيعية في العراق ضد حكومة البعث التي تخلصت منه بعد تشجيعه على العصيان والثورة على شاه إيران خلال معظم الفترة التي قضاها على الأراضي العراقية. بيد أنه ليس هناك من دلائل على أن الخميني حاول التسبب في أيّ قلاقل بالعراق. وحتى تاريخ كتابة تقرير السفير البريطاني، لم يتعد التمرد الشيعي المحتمل شعارات معادية للنظام كتبت على عجل على بعض الجدران في كربلاء والنجف. كما شهدت هذه الأخيرة مظاهرة تألفت مما لا يزيد عن 350 شخصا، وهو رقم لا يذكر بالقياس إلى عدد سكان المدينة أو معاييرها في مناسبات كهذه. ويبدو أن ردة الفعل هذه تأتت نتيجة لتحسب النظام وتوقعه التعامل مع موجة من الاضطرابات وسط الشيعة، أكثر من كونها صدى مباشرا للأحداث في إيران نفسها، خاصة أن السلطات العراقية كانت قد وضعت قيودا ثقيلة على حركة الشيعة خلال محرم. كما أنها وضعت عددا من الزعماء الدينيين إما قيد الاحتجاز المنزلي أو المراقبة الدقيقة. وقد ظلّ تاريخ الانتفاضات الشيعية المتفرقة، مثل أعمال الشغب التي اندلعت في فبراير (شباط) 1977، يُشكل سببا قويا لدى النظام لاتخاذ إجراءات تحسبية قمعية للغاية في حقهم.
على الجانب الآخر، قام صدام حسين بحملة علاقات عامة تتمثل في زيارته أقاليم الجنوب الأقصى الأربعة، حيث يشكل الشيعة السواد الأعظم من السكان. وقد تجاهل كربلاء والنجف تحديدا، لكنه طاف على سائر الأقاليم الجنوبية والشمالية حيث يمكن للشيعة والأكراد، على التوالي، استقاء إلهام العصيان من الثورة الإيرانية. وكان الافتراض الحتمي هو أن يكون استقباله في النجف وكربلاء على عكس ما تأمله السلطات. وقد يصبح هذا هو الحال. لكن ذلك لم يدعُ الحكومة لاتخاذ إجراءات أمنية غير عادية هناك. فالسفر من المدينتين وإليهما يتم بلا قيود في ظلّ أجواء هادئة.
تحالف شيوعي- شيعي
من جهة أخرى، ثمة اعتقاد يسود في بعض الأوساط مفاده أن الشيعة والشيوعيين حلفاء طبيعيون في وجه نظام البعث، لكن هذا رأي فيه الكثير من التبسيط المخل، رغم أن ثمة حقائق لا يمكن نكرانها. فمن الصحيح، مثلا، أن كلّا من الطرفين يملك أسبابه لكراهية الحكومة. وصحيح أيضا أن إحدى أولى خلايا الحزب الشيوعي كانت وسط شيعة الجنوب (وهو أمر طبيعي بالنظر إلى أنهم من أكثر سكان العراق فقرا). ولن يكون مدهشا إذا اتضح أن أصحاب الولاء للحزب الشيوعي وسط الشيعة يفوقون كثيرا عددهم وسط السنة (ولو بسبب أنهم أغلبية في البلاد). وعلى الأرجح فإن الأحداث في إيران شجعت الحزب الشيوعي على استغلالها لتحريض الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال على التمرد، والتنسيق بين هذين الطرفين ليشكلا جبهة مشتركة تكون قادرة على إطاحة النظام. لكن الواقع يختلف عن هذا، فنشاط الحزب الشيوعي وسط الشيعة لا يشكل حاليا أي خطر يذكر على الحكومة. وفي ما عدا الكراهية التي يتقاسمها الجانبان للنظام في بغداد، فلا رابط حقيقيا يجمع الاثنين معا. وبالتالي فلا مجال للحديث عن «تحالف شيوعي - شيعي».
الحكم يصنع من الشيعة خطرا
كما يجدر الانتباه إلى أن الشيعة كيان هلامي، لا يرقى لمرتبة تنظيم سياسي واحد متجانس، وبعض قادتهم الدينيين، وربما معظمهم، يتسلمون رواتبهم من الحكومة البعثية نفسها. وربما تؤدي الإجراءات التقييدية المتتالية التي يتبعها النظام معهم الآن إلى توحيدهم بحيث يصبحون خطرا حقيقا عليه يوما ما. لكن الواقع هو أن هذا السيناريو يبدو بعيد المنال على المدى المنظور. ولذلك قد تُنظم بعض المظاهرات في كربلاء والنجف، لكنها لن تخرج مطلقا عن السيطرة.
وعلى الرغم من أن الشيعة يمثلون أغلبية، إلّا أن السنة هم الذين يسيطرون على إدارة شؤون البلاد تحت نظام البعث الحاكم. ولا شك في أن الشيعة يمقتون هذا الوضع، بالإضافة إلى القيود المفروضة على شعائرهم الدينية، لكن كلّ ذلك لا ينبئ بتغيير قادم في النظام. لكن هذا لا ينفي تجذر الشقاق الطائفي في العراق، وهو عامل لابدّ أن يأخذ في الحسبان في أي تحليل للوضع العراقي.
البعث ليس حزبا دينيا
لقد أثارت الثورة الإسلامية في إيران قلق نظام البعث الحاكم في العراق. ما دفع صدّام حسين إلى التأكيد في خطاب له أن البعث يستقي قيمه الروحية والأخلاقية من الإسلام ومن تاريخ العروبة. لكنه يمضي ليقول إن البعث «ليس حزبا دينيا ولا يتظاهر بذلك». ويضيف أن الشقاق الأساسي في الإسلام وما تبعه من انشقاقات فرعية جاء نتيجة لتدخل الدين في الحقل السياسي. وقال إن أي حزب يحاول إضفاء حلول دينية على مشاكل سياسية ينتهي مطافه بالتحيّز لطائفة معينة وهو ما يعني أنه يحرم نفسه من فرصة توحيد الشعب بأجمعه. والبعث، من جهة أخرى، حزب للكلّ. فالمواطن الذي يدين بالولاء لمبادئ الثورة جزء من هذا الحزب بغض النظر عمّا إن كان عضوا فيه، على حد قوله.
تحضيرات للقضاء على التهديدات
لكن في 26 يوليو (تموز) 1979، تتلقى لندن من سفارتها أنباء عن مظاهرات صغيرة في طهران ضد النظام العراقي تبعها بيان صادر بأسماء جماعات شيعية مغمورة مثل «أئمة العراق المناضلون» و«هيئة النضال الإسلامي العراقي» و«الطلاب العراقيون بالخارج». وينادي البيان بإطاحة نظام البعث وإقامة دولة إسلامية مكانه. كما يدعو إيران وبقية شعوب العالم الإسلامي لتسليط الضوء على «محنة مسلمي العراق و50 ألف سياسي يقبعون في سجونه». ويدين البيان «المؤامرة ضد الثورة الإيرانية بمد خوزستان بالسلاح وتخريب أنابيب النفط في البلاد». ويشدد أخيرا على وجوب التضامن بين مسلمي إيران والعراق. لكن كاتب التقرير الدبلوماسي يسارع إلى استبعاد أن تكون للنظام الإيراني يد في هذا، بل عزاه لكونه «صدى للبيانات الطلابية التي صدرت سابقا في عواصم العالم تنادي بسقوط الشاه».
وفي ما عدا حوادث ومظاهرات متفرقة صغيرة، تخلو الملفات العراقية للعام 1979 من أي تحرك شيعي بمستوى يهدد النظام البعثي مباشرة. على أن رسالة في 3 ديسمبر (كانون الأول) تنقل أن صحيفة «العراق» الرسمية أوردت في الأوّل من الشهر حادثة في عشية «عاشوراء» (29 نوفمبر) قتل فيها بالرصاص خالد نوري، وهو عضو إقليمي بارز في حزب البعث، مع امرأة مجهولة الهوية، وجرح فيها 16 شخصا آخر معظمهم من النساء. وتبعا للصحيفة فقد كان المهاجمان رجلين قبض عليهما بعد أن ردّ الحراس و«المارة الوطنيون» إطلاق النار. واعترفا بعد اعتقالهما بأنهما ينفذان عملية خططت لها «جهة أجنبية معادية للشعب العراقي».
وتمضي الرسالة معلقة على هذا بالقول إنه من غير المألوف لصحف النظام نقل أخبار كهذه إلّا استباقا لأمر ما، مثل مزيد من الإجراءات الأمنية الضاربة التي تصاحب العشرة الأوائل من شهر محرم عادة. وأشارت إلى موعد الحادثة ومكانها قائلة إن القصد منهما محاولة -فيما يبدو- لتحريك صفوف الشيعة ضد النظام. كما أشارت إلى أن عدد جرحى الحادث 26 وليس 16 مثلما أوردته صحيفة «العراق». وانطلقت، من هذا التباين، لافتراض أن هؤلاء سقطوا بنيران رجال الأمن أنفسهم وليس برصاص المهاجمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق