السبت، 15 مايو 2010

حلم الشاه بإيران العظيمة على صفيح الغضب

حلم الشاه بإيران العظيمة على صفيح الغضب


تواصل «أوان» نشر وثائق الأرشيف البريطاني المتعلقة بالكويت والمنطقة المحيطة بها في العام 1979، وما عرفته آنذاك من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كان لها دور كبير في رسم معالم المنطقة في الوقت الراهن. وقد دُوّنت هذه الوثائق منذ 30 سنة، ما جعلها مُتاحة للتداول العام عملا بقانون حرية المعلومات البريطاني، مطلع العام الجاري.
يواصل السفير البريطاني في طهران من 1974 إلى 1979 أنتوني بارسونز في وثيقته التحليلية الشاملة (الملف «FCO 8/3404»)، التي كتبها في أواخر أيامه في طهران، استعراض الوضع الإيراني في تلك الفترة التاريخية المهمة والأسباب التي أدت إلى نجاح الثورة الجماهيرية على الشاه. وعلى مدى يمتد من المستوى الشخصي إلى التأويل الغربي للمعطيات السياسية في عموم الشرق الأوسط.. يدلي بارسونز في تحليله باعتراف صار شهيرا وسط المؤرخين في ما بعد، وهو أنه أخطأ في أهمّ حساباته التي بنى عليها توقعاته لإيران في حكم الشاه. ويُشير بارسونز في الجزء الثاني من الوثيقة إلى أن زمن الوفرة (1974 - 1975) أقنع الشاه بأن شحّ المال ما عاد حجر عثرة أمام تحقيق حلمه بـ «الحضارة العظيمة». واعتقد أن الثروة المادية التي انهمرت على البلاد ستحرر أهلها في آخر المطاف من قيود التقاليد الدينية، وستجرد الملالي من وظيفتهم وسبب بقائهم في المجتمع الجديد، خاصة بعد أن اعتبر أنهم يتصرفون بدافع الخوف من تراخي قبضتهم على عقول الناس. بل إنه مضى ليسمي هذا الخوف «ردة الفعل السوداء». وكان يتمنى أيضا أن تحدو المنافع المادية التي أغدقها على الكتلة الطلابية المتعاظمة الحجم والمستقبل الزاهر الذي وعد به البلاد بهذه الكتلة، للانصراف عن أحلامها السياسية وعن السير في طريق التطرف الديني الذي أسماه «الثورة الحمراء» نسبة إلى لون الدم.

من جهته، اعتقد بارسونز أن الولاء الذي تمتع به الشاه من جانب القوات المسلحة كان كفيلا ببقائه السياسي حتى اللحظة التي يختار فيها تسليم توريث العرش الامبراطوري لابنه (تقريبا في منتصف الثمانينيات) شريطة أن يحافظ على نظامه السياسي الدكتاتوري كما هو، وفي الوقت نفسه يضع في أيدي أهل البلاد شيئا ملموسا من الكثير الذي وعدهم به. كما كان السفير البريطاني مُتيقنا من أن الشاه يمتلك القدرة حتى على إضفاء الليبرالية على النظام السياسي بدون التوغل في مغامرة تكلفه العرش، على الرغم من أن الأمر برمته محفوف بالعديد من المخاطر. ولو أنه لم يسرع بعجلة التنمية فوق المعقول في العام 1974، وأنه أحسن توقيت سياسته الليبرالية، وأن وشائج اتصاله بالعامة كانت متينة وإن كان بقدر يسير، لما وجدت القوى المعارضة لحكمه الفرصة لإطاحته.

الرجل الخطأ
والواقع أن الشاه كان الرجل الخطأ للمهمة في هذا المجتمع الشرقي. فهو ذكي وديناميكي وكفء وذو مؤهلات تصنع منه أفضل أنواع صنّاع القرار السياسي، أو مديرا ناجحا لشركة كبرى في أي مجتمع غربي. لكنه، في الأساس، خجول وغريب على زمرة التكنوقراط، ولا يعرف كيف يتعامل معهم. هذا في أفضل الأحوال. وفي أسوئها، فهو خجول مرتاب وغريب على شعبه، ولا يعرف كيف يتعامل معه. ومع تعاظم سلطته، أجبره هذا الخجل والإحساس بعدم الانتماء على اللجوء، إلى «الأمان في الشعور بالعظمة». فعزل نفسه وسط جدران أمنية منيعة وقطع سبل الحوار مع الناس واعتمد بالتالي على وسطاء يقولون له، خوفا من بطشه، ما يريد سماعه وليس الحقائق كما هي.

وبعد تغلبه في العام 1963 على مختلف الأجنحة التي سعت لقص جناحيه على مدى 20 عاما، سعى الشاه في ثورته البيضاء لمحو آثار الزعماء التقليديين والدينيين وملاك الأراضي وتجار البازار على تشكيلة المجتمع. وكان مرماه هو أن يحكم عبر تكنوقراط مشبعين بتعاليم الغرب، ويقفز في معيّتهم فوق المؤسسة التقليدية، وصولا إلى توّحده مع الناس في ما صار يُسمى «ثورة الشاه - الشعب». ولكن في هذا الجزء من العالم لا يستطيع الحاكم أن يتفاعل مع الجماهير باتخاذه إجراءات إدارية تصب في مصلحتها، بينما يتغيّب هو شخصيا عن مسرح الأحداث. ولا يكفي هذا الحاكم اتخاذه هالة سماوية وحصوله على الإعجاب والاحترام وحتى الخوف نفسه. بل إن ما يلزم له، فوق ذلك، أن يتمتع بسحر الشخصية والجاذبية المغناطيسية التي تمنحه القدرة على القيادة بيده العارية على يد الشعب العارية. فجمال عبدالناصر تمتع بكلّ هذا بينما حُرم الشاه منه. ولهذا السبب خبت «ثورة الشاه - الشعب»، ولم يسر مفعولها إلّا عليه شخصيا وعلى التكنوقراط والقوات المسلحة.


أضف إلى هذا، أن الشاه حرم نفسه أيضا من مؤسسة مهمة اعتمد عليها سائر حكام إيران عبر التاريخ، وهي شبكة المخبرين الذين ينقلون إليه ما يدور في الشارع والرأي الشعبي بصراحة. وبدلا عن ذلك ركن إلى التكنوقراط الذين كانوا في سوادهم الأعظم «غربيين» أكثر من كونهم «إيرانيين»، وعلى شبكة مخابراته التي اشتغلت بالقضاء على أعراض التململ الشعبي بدلا من أسبابها، وعلى منظمات هلامية، مثل «المفتشية الامبراطورية»، التي أخطأ الشاه في الثقة العمياء بها.

لم تكن الأمور بكلّ ذلك السوء إلى أن خلق الشاه الطفرة الاقتصادية الفجائية الهائلة في أواخر 1973. وقبل ذلك كان الرخاء يسير بوتيرة معتدلة بحيث كان الناس يتمتعون به بلا فجائيات تقطع عليهم إيقاع حياتهم المنتظم. ورغم أن ثقافة البازار كانت تشعر بنذير التغيير، فلم تنبذه باعتباره خطرا قاتلا. والطلاب كانوا يشعرون بعدم الرضاء، لكنهم لم يصبحوا أكثر راديكالية من أقرانهم الغربيين. والجماعات الإرهابية الصغيرة كانت تنشط بين الفينة والأخرى، لكن هذا هو الشرق الأوسط. باختصار، كانت مشاكل إيران لا شيء يذكر مقارنة بنوع المشاكل السائدة في العالم العربي.


لهيب الغضب
إلى أن أتت وفرة 1974 مصحوبة بسرعة مخيفة في تواتر الأحداث. فقد ضاعف الشاه ميزانية الخطة الخمسية وبدأ مشاريع صاعقة الطموح والضخامة، فأحس التكنوقراط بأن الفرصة سنحت لهم لتطبيق ما تعلموه في جامعات الغرب. ومع تغلغل الحكومة في آليات الاقتصاد التقليدية، شعر البازاريون بالخطر الداهم من حولهم. وفي تلهف الشاه على تحقيق حلمه السياسي في أقل من 10 أعوام، أغلق سائر صمامات الأمان وزاد الطين بلة بتأسيسه حزبه الملكي الذي قصد منه إضافة جناح سياسي مطيع إلى جانب برنامجيه الاقتصادي والاجتماعي. فأحدث بذلك لهيبا من الغضب وسط الكتلة الطلابية الضخمة المحرومة من المشاركة في كعكة الحكم. ووجد هذا الغضب تربة صالحة في القمع السياسي الذي غشي كلّ من لا يتفق مع التوجهات الامبراطورية. واجتماعيا، سعى الشاه بكل قوته لمحو التراث الإسلامي وتجاوزه للارتكاز على بديل له وهو المجد الامبراطوري الفارسي القديم، موفرا للملالي بذلك كل مستلزمات التحرك للدفاع عما يعتبرونه هوية البلاد الضائعة.
وبحلول 1977 كان زمن الوفرة قد ولّى. ورغم أن الكثير كان قد أُنجز، فقد كانت الأخطاء الفادحة واضحة للعيان. وراحت البلاد تعاني من الآثار السلبية للتطور المديني السريع والتضخم المالي بلا كابح والفساد المريع والكفاءة الغائبة وعجز الحكومة عموما عن ترجمة أماني الشعب إلى واقع ملموس. وحاول الشاه معالجة ذلك بطرده رئيس الوزراء المتحمس للتغيير أمير عباس هويدا وتعيينه الاقتصادي الحذر جمشید اموزغار. لكن الضرر كان أكبر من أي محاولة للإصلاح.
وبنظرة استرجاعية، يُقر السفير البريطاني بأن الشاه اختار أسوأ وقت ممكن للبدء في برنامجه التحديثي الهائل. فدروس التاريخ، مثل أسباب الثورتين الفرنسية والروسية، تعلمنا أن أي مرحلة انتقالية إلى الإصلاح الليبرالي هي أخطر ما يمكن أن يواجهه القصر. ولو أن الشاه اختار العام 1974، في أوج الوفرة وعندما كان يسود البلاد شعور بالهناء والاطمئنان إلى طيّات المستقبل، لكان الناتج أقل ضررا بكثير. لكنه اختار الوقت الذي وصلت فيه توقعات الجماهير إلى قمة شاهقة فقط لتواجه بالإحباط.


الجيش ضدّ الشعب
فلماذا هذا التوقيت السيئ؟ الإجابة المختصرة هي، أوّلا، إحساس الشاه بأن ما تبقى من العمر لن يكفيه للسير على مهل، وأن عليه الإسراع في تحقيق حلم «الحضارة العظيمة» وبالتالي إكماله القاعدة السياسية الصلدة لابنه قبل جلوسه على العرش خلفا له. وثانيا، كانت هناك الضغوط التي بدأت تتعاظم عليه من الحكومات الغربية من أجل الإصلاح، خاصة من واشنطن بعد تنصيب جيمي كارتر رئيسا للولايات المتحدة.

وما إن بدأ الشاه يرفع الغطاء عن الطنجرة، حتى تبدى أن كمية البخار القابعة تحته أكبر من كل ما يُمكن تخيله. واتضح أن فصائل المعارضة توحدت فيه على اختلافها، من الشيوعيين مرورا بالديمقراطيين الليبراليين وإلى البازاريين والملالي. ولو أن الأحداث نفسها وقعت في أي رقعة في العالم العربي مثلا، لكانت الحكومة قد سقطت بين عشية وضحاها عبر انقلاب عسكري يستمد أسباب وجوده من الغضب الشعبي. لكن ما أطال معاناة الشاه كل تلك الفترة هو ولاء القوات المسلحة الكامل له وانحيازها إلى جانبه دون الشعب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق